اعترف الجيش الإسرائيلي، الأربعاء 21 مارس/آذار 2018، بمسؤوليته عن غارة جوية استهدفت في 2007 منشأة في شرقي سوريا، يشتبه بأنها كانت تؤوي مفاعلاً نووياً تطوّره دمشق سراً، لتتأكد بذلك الشكوك، التي لطالما حامت حول مسؤولية الدولة العبرية عن ذاك الهجوم الخاطف.
ومع أن كل أصابع الاتهام أشارت إلى وقوف سلاح الجو الإسرائيلي خلف تلك الغارة، إلا أنها المرة الأولى التي تعلن فيها الدولة العبرية صراحةً مسؤوليتها عن تدمير المنشأة السورية.
وأتى هذا الاعتراف بعد رفع السلطات الإسرائيلية السرية عن مواد متعلقة بالغارة، وفي الوقت الذي تُكثف فيه الدولة العبرية تحذيراتها من الأخطار المتأتية من تعزيز طهران وجودها العسكري في سوريا، ودعواتها إلى تعديل أو إلغاء الاتفاق المبرم بين الدول العظمى وإيران، حول برنامجها النووي.
ورفض متحدثٌ عسكري إسرائيلي الردَّ على سؤال حول سبب رفع السرية عن هذه الوثائق، في هذا التوقيت بالذات، وما إذا كان الهدف من ورائه توجيه تحذير لإيران بسبب أنشطتها في سوريا.
كيف علمت إسرائيل بالموقع
تعود الاتصالات ما بين بشار الأسد وكوريا الشمالية، إلى يونيو/حزيران من عام 2000، بشأن إنشاء مفاعل نووي؛ فالتعاون المسلح بين دمشق وبيونغ يانغ هو تقليد وثيق العرى، ذلك أن النظام الشيوعي في كوريا الشمالية سبق له في الماضي أن ساعد سوريا على تطوير أسلحة كيميائية.
وفي عام 2002 وصلت طلائع المواد الأولية الكورية الشمالية إلى سوريا، يصحبها فريق من التقنيين والعلماء؛ باشرت أعمال البناء في تشييد الموقع، لكن التستر عليه وكتمان أمره استوجبا سرية تامة، وهو ما أمّنته السلطات جيداً جداً، فقد منع منعاً باتاً التواصل مع الخارج حول هذا الأمر، بحسب مجلة ناشيونال انترست الأميركية.
وكان الخبير في السياسات الأمنية الإسرائيلية مارسيل سير قد كشف في مقال بالمجلة الأميركية، نشره يناير/كانون الثاني 2018، الطريقة التي علمت فيها إسرائيل بالموقع النووي بسوريا، على الرغم من الاحتياطات الأمنية التي أحاطت بالقصة.
بدأت القصة عندما رصدت الاستخبارات الإسرائيلية منشأة مريبة في منطقة نائية شمال شرقي سوريا على مقربة من نهر الفرات، وتبعد 30 كيلومتراً عن مدينة دير الزور، نهاية عام 2006، حيث كانت المنشأة مغطاة بسقف ضخم، حال دون وضوح الرؤية من أعلى.
ساور الشك الاستخبارات الإسرائيلية، فقد بات واضحاً لديهم أن السوريين يخفون شيئاً هناك، وكانت كل الاحتمالات تتجه إلى أن هناك برنامجاً سورياً نووياً في تلك المنطقة.
وسرعان ما تأكد الشك على نحو غير متوقع من مصدر إيراني رفيع هو الجنرال علي رضا عسكري، الذي كان المستشار الأمني لرئيس إيران السابق محمد خاتمي، ثم تولى منصب نائب وزير الدفاع لعدة سنوات، لكنه بعد انتخاب محمود أحمدي نجاد عام 2005، بات من المغضوب عليهم، فانشق وفرَّ إلى الولايات المتحدة، في فبراير/شباط 2007.
هناك باح عسكري بما لديه وقدم معلومات شديدة الأهمية، منها إدلاؤه بتفاصيل حول البرنامج السوري النووي، الذي موَّلته إيران وبناه الكوريون الشماليون، حيث كانت المنشأة لمفاعل ذي مهدئ غرافيتي، تحت اسم "الكبر" قادر حسب المفترض على إنتاج البلوتونيوم للأسلحة النووية، بحسب المقال.
وقدمت الولايات المتحدة تلك المعلومات لإسرائيل.
يبدو أن الاستخبارات الإسرائيلية لم تكف بذلك، فعمد الموساد الإسرائيلي إلى تفتيش غرفة إبراهيم عثمان، مدير هيئة الطاقة الذرية السورية، التي نزل فيها في فندق بفيينا في مارس/آذار 2007. عن إهمال، ترك عثمان جهاز حاسوبه المحمول (اللابتوب) في غرفته، فكان سهلاً على العملاء الإسرائيليين نسخ محتويات قرصه الصلب.
وبحسب الكاتب الأميركي فقد كانت المفاجأة التي فاقت التوقعات، أن البيانات المنسوخة التي حصل عليها الموساد، عثروا من ضمنها على عشرات الصور الملونة التي تظهر داخل البناء، ما قطع الشك باليقين، وأكد أن السوريين يبنون مفاعلاً نووياً بمساعدة كوريا الشمالية، حيث ظهر في إحدى الصور تشون تشيبو، الخبير النووي الرائد والبارز في كوريا الشمالية.
ما قبل التنفيذ
بمجرد أن تأكدت تل أبيب من أن سوريا على وشك تنشيط مفاعل نووي، ناقشت إسرائيل الخطوات التالية مع واشنطن، فوافى عمير بيريتس وزير الدفاع الإسرائيلي نظيره الأميركي روبرت غيتس، في الـ18 من أبريل/نيسان، بالنتائج التي اكتشفها الموساد.
لكن الرئيس الأميركي آنذاك، جورج بوش، كان حذراً، فبعد الكارثة الإعلامية في العراق ومزاعم حيازة العراق لأسلحة دمار شامل لم يعثر لها على أثر، أرادت إدارة بوش أن تتلافى الوقوع في غلطة أخرى مهما كلفها الأمر، بحسب المقال.
لكن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA تحققت من المعلومات التي عثرت عليها إسرائيل ووافقت إسرائيلَ في تأويلها لها، مع ذلك ظل الشك يساور بعض كبار المسؤولين في إدارة بوش خشية تصعيد جديد في منطقة الشرق الأوسط دون سيطرة، فحربا العراق وأفغانستان كانتا قد أثقلتا كاهل الولايات المتحدة بما يكفي.
ثم كان في يونيو/حزيران 2007، أن زار رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها إيهود أولمرت البيت الأبيض، وهناك صارح الرئيسَ الأميركي بأن إسرائيل قد تمضي في سبيلها وتتخذ خطوة أحادية الجانب ضد المشروع النووي السوري، في حال أحجمت الولايات المتحدة عن المشاركة في العملية، فلما ألمح بوش إلى أنه لن يقف دون إسرائيل وعمليتها الأحادية، هنا بدأ سلاح الجو الإسرائيلي يخطط لضربة جوية محدودة ضد المنشأة السورية.
أُرسِل جندي كوماندوز من مغاوير القوات الإسرائيلية الخاصة التابعة لوحدة في سلاح الجو تعد نخبة المغاوير، ألا وهي وحدة استطلاع هيئة الأركان العامة الإسرائيلية المعروفة باسم "ماتكال"، حيث نجح ذاك العنصر بالتسلل داخل سوريا وجمع المعلومات الاستخباراتية في موقع المنشأة النووية.
الضوء الأخضر
ويتابع الكاتب، ثم في الـ5 من سبتمبر/أيلول، وبعد أسابيع من جولات الجدل والمناقشات السياسية السرية في مجلس الأمن الإسرائيلي حصلت القوات الجوية الإسرائيلية على الضوء الأخضر، لتنفيذ "عملية البستان"، وليلتها أقلعت 10 مقاتلات F-15 وF-16 من قاعدة رامات ديفيد الجوية الإسرائيلية.
في البداية حلَّقت الطائرات شمالاً على طول ساحل المتوسط، ثم فجأة انعطفت شرقاً على طول الحدود السورية التركية، وقامت بتشويش إلكتروني لأنظمة الدفاع الجوي السورية، ودمّرت محطة رادار، وبذلك نجحت بدخول المجال الجوي السوري.
ثم حوالي الساعة 12:45 فجراً، أبلغ الطيارون عن تنفيذ مهمتهم بنجاح، وتم تدمير المفاعل النووي السوري حتى قبل أن يتسرب الخبر ويتناقله الإنترنت، وعادت الطائرات الإسرائيلية إلى قواعدها سالمة، بحسب المجلة الأميركية.
في اليوم التالي ذكرت الوكالة السورية الرسمية للأنباء خبراً، مفاده أن مقاتلات جوية إسرائيلية اقتحمت المجال الجوي السوري، وبعدما رصدتها أنظمة الدفاع السورية ألقت المقاتلات بذخائرها وسط الصحراء، ثم انكفأت راجعة دون أن تحدث أي أذى. في الواقع إن الدفاع الجوي السوري لم يطلق صاروخاً واحداً.
وتشمل المواد التي رَفعت إسرائيل السرية عنها ووزَّعتها على وسائل الإعلام لقطات لصور من القصف، وشريط فيديو لقائد العملية في حينه، الجنرال غادي إيزنكوت، يكشف فيه تفاصيلَ حول الهجوم، وصوراً لبيانات سرية عن الموقع، جمعتها استخبارات الجيش.
بعد الضربة التزمت إسرائيل الصمت، ولحسن الحظ سار كل شيء حسب الخطة، فالأسد حفظ ماء وجهه بنفي وجود برنامج نووي أصلاً، متلافياً بذلك الرد بتوجيه هجوم مضاد. أما في تلك الأثناء فقط ظل العالم حائراً فترة بأمر ما حدث فعلاً ليلتها، من سبتمبر/أيلول 2007، بحسب مقال سير.
بعدما نفذت مهمتها قامت وحدة شايطيت 13 ( وحدة كوماندوز بحرية التابعة للبحرية الإسرائيلية) -وهي نظيرة قوات نافي سيلز الأميركية- باغتيال العميد محمد سليمان، في الأول من أغسطس/آب 2008، على يد قناص أطلق رصاصة من بندقيته، بينما كان العميد على مائدة العشاء في فيلا مطلة على البحر؛ حيث كان العميد الآمر الناهي في برنامج سوريا النووي، كما كان هو حلقة الوصل مع الكوريين الشماليين.
عملية البستان كانت عملية ناجحة تماماً من وجهة نظر إسرائيل، فالعقيدة التي وضعها بيغن نفذت بحذافيرها وبالتزام تام، كما أنه حسبما آلت إليه الأمور لاحقاً يبدو أن الضربة الجوية الإسرائيلية قد خدمت الشرق الأوسط وربما العالم بأسره خدمة كبيرة، إذ لنا أن نتخيل كيف كانت الحرب السورية ستسير لو كان في حوزة الأسد سلاح نووي؛ خصوصاً أن الأسد أثبت أنه لا يتورع عن استعمال الأسلحة الكيميائية ضد شعبه. ولعل السيناريو الأسوأ كان لو وقع السلاح النووي أو المواد المشعة بأيدي داعش.
وخاضت سوريا وإسرائيل حروباً متكررة منذ تأسيس الدولة الإسرائيلية عام 1948. ولا يزال البلدان رسمياً في حالة حرب.
وسعت إسرائيل إلى تجنُّب التدخّل المباشر في الحرب الأهلية السورية التي اندلعت في عام 2011، لكنها اعترفت بتنفيذ غارات جوية في سوريا لمنع إرسال شحنات أسلحة إلى حزب الله الشيعي اللبناني، الذي يقاتل عناصره في سوريا دعماً لنظام الأسد.
وكانت إسرائيل أعربت مراراً عن قلقها المتزايد من محاولات إيران لترسيخ نفوذها العسكري في سوريا.