عند عودتي من كاتماندو وقد تمكن مني البرد، وجدت فتاتين جالستين في غرفة المعيشة، ووجدت ورقة ملصقة على باب غرفتي، مكتوباً عليها “عزيزتي نهى لقد أحضرت رفقاء سكنك الجدد، أتمنى لكم إقامة سعيدة معاً”.
كانتا قلقتين جداً، استشعرت خوفهما مني ورق لهما قلبي، أعلم جيداً هذا الإحساس بالغربة والخوف من كل شيء جديد، جلست معهما وبدأن في التعارف، قالتا: “روزي وروبي”، إنهما قادمتان من نيبال, ولقد درستا معاً في أكاديمية لتدريب الضيافة، كانتا مثل عصافير الكناريا، خفيفات على القلب والروح وتتمتعان بوجهين سمحين.
قصصت لهما ما حدث معي في كاتماندو من مغامرات، حتى قصص العفاريت الأطفال، ضحكنا وكسرنا الجليد بيننا وخلال سويعات أصبحنا وكأننا نعرف بعضنا البعض منذ سنوات، احتفلت بوجودهما بعزيمتهما على ” كنافة نابولسي” من المحل المجاور للسكن، ولكني حرصت على وضع قوانين النظافة، تعلمتُ أن وضع القوانين يغني عن أشياء كثيرة.
سعدت بوجودهما معي، كانتا في قمة الأدب، حمدت الله على تعويضي عن غياب “مارجو” رفيقة سكني وصديقتي بوجودهما، لو أحصيت عدد الفتيات اللاتي عاشرتهن لاحتجت إلى كتيب خاص لسرد حكاياتي معهن.
اضطررت للذهاب للمشفى بسبب ارتفاع حرارتي، نصحني الطبيب بالراحة التامة، وأن أراجعه بعد يومين من الراحة، ثم أعطاني شهادة طبية كي يتسنى لي أخذ إجازة من العمل، بدون تلك الشهادة سيتم خصم أيام راحتي من راتبي، للأسف الغياب بحجة المرض كانت دائماً مشكوكاً فيها لدرجة أن الأطباء أنفسهم محرج عليهم إعطاء إجازات أكثر من يوم واحد، ليس ذلك فقط، إمضاء الدكتور ليس كافياً، يجب أن تختم الشهادة بختم المستشفى، كما لو كان الإنسان غير مسموح له بالتعب، كما لو كنا روبوتات مبرمجة للعمل فقط.. إنها دنيا المصالح.
خلال مرضي قامت روبي بالاهتمام بي بشكل خاص، أعدت لي الشوربة الساخنة وكمادات باردة في الليل؛ حيث كانت تزداد حرارتي، كم هي جميلة، تذكرت رفيقة سكني الأولى بنت بلادي التي كانت تسرقني بكل صفاقة، شتان بينهما، سبحان الله ربما كانت تجربتي معها مهمة كي أفهم جيداً أن كلام الناس عن أهل البلد وجدعنتهم ما هو إلا هراء تام.
عندما بدأت أتعافى قررت أن أطهي لهما بعض الأطباق، وكانت روزي معي تعد لنا طبق بيض بالكاري المعروف في نيبال، أخرجت كيس اللحم المفروم من الثلاجة وبدأت في عمل البشاميل، سألتني روزي بكل أدب عن نوع اللحمة المفرومة إن كانت لحم خروف أو لحم بقر، تعجبت من سؤالها، فأنا لم أقرأ نوع اللحم، سألتها لماذا؟ قالت لي: نحن لا نأكل لحم البقر.
ما أغباني، لقد نسيت تماما أن البقرة عندهم مقدسة، أخرجت كيس اللحم من صفيحة الزبالة للتأكد أن اللحم ليس بقرياً، والحمد لله كان لحم خروف، ولكني وقتها كنت أتمتع بعنصرية دينية قميئة دفعتني لأن أقول لروزي: ماذا لو أكلتِ منها، هل تعتقدين أنها قادرة على أن تؤذيكِ، صمتت وأعتقد أنها تحسست من كلامي، أوضحت لها أنني لا أسخر منها ولكني أريد أن أفهم، فأجابتني، أن البقرة عندهم مقدسة مثل أي شيء ولدنا وجدنا آباءنا يقدسونه، وأنها لم تهتم لتعرف السبب.
اعتذرت لها وشعرت أنني محدودة التفكير، كلامها سليم، نحن نُخلق في بيوت ونرى آباءنا يعبدون إلهاً فنعبده ويقدسون أماكن وأشخاصاً فنفعل نفس الشيء، وقليل منا من يبحث عن الأسباب ويتفكر فيها، ويأخذ موقفاً مؤيداً أو معارضاً، ونظراً لأن مجتمعنا لا يقبل الاختلاف، حتى لو تبينا خطأ أهلنا في معتقداتهم أو لم نتفق معهم، فنحن لا نملك الشجاعة الكافية لنصارحهم بذلك ولمناقشة أفكارنا، وإذا حدث ذلك سيتم تعنيفنا أو تكفيرنا أو حتى الخلاص منا، نحن نعيش في مجتمع بائس يرفض الآخر بكل ما يحمله من أفكار ومعتقدات، وإذا تجرأ أحدنا على البوح بما يجول بخاطره عليه أن يلاقي من التهديد والوعيد والتكفير وتطبيق ما وضعه بشر من قوانين ولصقوها بالدين لنسف أي فكر مختلف أو معادٍ… ونتعجب من وجود جماعات تستقطب الشباب لتذبح الأبرياء، منتهى السخرية.
تناولنا غداءنا وتناقشنا عن الإسلام وعن أحلامها، كلتاهما قالت: نحن هنا فقط لفترة قصيرة، وإنهما تنتويان السفر لبلاد العم سام، كانت روزي على علاقة حب بزميل لنا، ولكن الجميع حذرها منه، إنه لعوب ويقضي رحلاته بين أحضان الأخريات، هذا ما يردده الفتيات، لم أقوَ على أن أخبرها بذلك رغم معرفتي الجيدة به، والتي من خلالها أقر صحة كلام الفتيات، ولكني أخبرتها عن سذاجتي في الحب وكيف انتهى بي الحال بعد أن وثقت بأحدهم، واتضح لي أنه يوجد شياطين كثر على شكل بشر, لم تسمع لي، مثل أي فتاة عاشقة تريد أن تعيش الحب وتنهل منه، الحب الذي يعمي البصيرة مؤقتاً، أتذكر تألمها عندما اكتشفت أن كلام الفتيات صحيح، حاولت أن أخفف عنها، ولكني كنت على يقين أن هذا الألم لن يشفيه إلا الوقت أو الوقوع في حب جديد.
عند معاشرتي لتلك الفتيات ومعرفتي لهن عن قرب، اكتشفت أن معظم الفتيات في العالم يبحثن عمن يحبهن بصدق، هذا هو كل شيء، ولكن ما إن ينكسر قلبها تتحول لتصبح إنساناً يبحث عن الفرصة الأفضل بعيداً عن المشاعر التي تخدعنا، حتى عندما تحدثت مع فتيات يصنفن عاهرات وسألتهن عن سبب ما دفعهن لذلك، وكانت الإجابة كما توقعت كسرها رجل وخدعها، فقدت روحها البريئة وتحولت لامرأة جريحة تنتقم لقلبها وبراءتها باستغلال كل ذكر تقابله.
“الكراهية تكلّف أكثر من الحب.. لأنها إحساس غير طبيعي.. إحساس عكسي مثل حركة الأجسام ضد جاذبية الأرض، تحتاج إلى قوّة إضافية، وتستهلك وقوداً أكثر”
– مصطفى محمود.
أعتقد لو لم يوجد رجال زناة لما وجدت عاهرات، وأعتقد أيضاً أن خلف كل عاهرة رجلاً مزق قلبها وتركها تصارع الحياة وحيدة ومنكسرة.