لم يكن الشاب الفلسطيني " أبو الطيور " يظن أنه سيضطر في يوم من الأيام , أن يترك أرضه ويهجر وطنه وأهله , بحثا عن الرزق والأمن في بلاد المهجر البعيدة , بعد أن ضاقت به المعيشة في قطاع غزة , في ظل الحصار والحروب , في رحلة الهجرة نحو الشمال , فالشاب " محمود " الذي كان يفلح الأرض مع أهله , ويربي الطيور بكافة أنواعها , كان سعيدا بما تنتجه الأرض من خيرات , وما تجود به حظيرة الطيور من دواجن , يأكلون منها ويبيعون .
كبر محمود وترك مساعدة أهله في الفلاحة والزراعة وتربية الطيور , لإكمال دراسته الجامعية , وتفوق في دراسته في مجال هندسة الكمبيوتر , وأنهى دراسته في أقل من خمس سنوات , وبدأ البحث عن عمل يناسب تخصصه , ولكنه لم يوفق في الحصول على عمل مستقر يوفر له راتبا مجزيا ليبني حياة جديدة , غير أن الكثير من المؤسسات التي عمل بها كانت تستغله بأجر زهيد لا يتكافأ مع جهده المبذول , ومع الحاح الأهل بضرورة استقراره والبحث عن زوجة له بعد أن تجاوز 25 عاما , وهو عمر لدى أهل المنطقة يعتبر كبيرا , واستقر رأي الأهل على إحدى الفتيات من أقاربهم , وزف محمود إلى زوجته , وهو ما حمّله وأهله المزيد من المصاريف والأعباء , في ظل تراجع منتوج الأرض ومزرعة الدواجن لدى عائلة " أبو الطيور " , بسبب منافسة المنتوجات الاسرائيلية الرخيصة , رغم مناداة جمعيات المقاطعة للبضائع الاسرائيلية بضرورة تشجيع الناتج المحلي , لكن الناس تبحث عن الأرخص والأوفر لها.
ضاقت الحياة على محمود بعد أن أصبح مسؤولا عن اسرة , خاصة وأن زوجته أصبحت بعد أشهر تنتظر قدوم مولودهما الأول , ومحمود غير قادر في ظل الأوضاع المعيشية في قطاع غزة , وتفشي البطالة في ظل الحصار والاغلاق , والوظائف المقتصرة على أبناء فصيل واحد .. وبدا محمود يسمع من أصدقائه عن هجرة الشباب نحو الشمال حيث الحياة الرغيدة في دول أوروبا وأميركا وكندا , حيث توفر السكن والعمل والراتب الكبير , غير أن قصص الغرق في البحر , وشقاء الرحلة الطويلة , لم تمنعه من التفكير في حلمه بالسفر , وترك هذا البلد الذي لم يقدم له شيئا , وعزم وقرر الرحيل , غير أن الرحلة تحتاج المال الكثير , وزوجته حامل ويخشى عليها من وعثاء السفر , غير أن المجازفة كانت حاضرة , وبعد عدة محاولات للسفر من معبر رفح , لم يحالفه الحظ بالوصول إلى الدور , عندها قرر الدفع المسبق لما يسمى التنسيق , فالمال هو الحل , وبالفعل تسهلت الأمور , وبدأت الرحلة نحو المجهول , بعد أن تحصل على تأشيرة دخول إلى تركيا , بوابة العبور إلى أوروبا , ورغم عذاب يومين من السفر من رفح إلى مطار القاهرة , حيث باتت وزوجته ومئات المسافرين ليلتهم الأولى في معبر رفح , يفترشون الأرض ويلتحفون السماء , إلى صباح اليوم التالي , حيث ستقلهم حافلة الترحيلات إلى مطار القاهرة , ثم باتوا ليلتهم الثانية على الكراسي في صالة " الترانزيت " .
وأخيرا وصلوا إلى تركيا , لكن كانت المفاجأة بمخاض الزوجة والميلاد لأول الأطفال , فكان عليهم الانتظار لأكثر من شهرين حتى تتعافى الزوجة , ويكبر الطفل لأشهر لتحمل مشقة السفر , ثم بدأ البحث عن المحطة القادمة للعبور إلى أوروبا , وهنا جاء دور المهربين والسماسرة ودفع المزيد من النقود , وتم نقلهم إلى شاطئ بعبد ومهجور غرب تركيا , تحضير لرقوب القوارب نحو اليونان , أول البلاد المستقبلة للاجئين القادمين من بلاد المهجر العربي , حيث الحروب والموت وهجرة الملايين نحو الشمال هربا من الموت , ولو كان الثمن هو الموت أيضا في كثير من الأحوال , بعد أن ابتلع البحر الآلاف من البشر الذين يتكدسون في قوارب متهالكة تقذف بهم إلى لجة البحر وظلماته .
وكتب لمحمود وزوجته وطفلهما أن يصلا بالسلامة إلى اليونان , بعد أن تعرضوا للابتزاز والسرقة من المهربين والسماسرة , ولأن اليونان لا تقبل المهاجرين , كان عليهم البحث لدى المهربين عن بلد يقبلهم في أوروبا , فكانت وجهتهم عبر رحلة من القطارات والسيارات إلى كرواتيا , وهناك استقبلهم رجال الأمن وقاموا بحجزهم في معسكرات , هي أشبه بمعسكرات الاعتقال , وهناك تم أخذ بصماتهم , وتوقيعهم على البقاء داخل المعسكر , إلى حين وجود بلد أوروبي آخر يقبلهم .. غير أنهم لم يطيقوا البقاء في معسكر الاعتقال , ومع وجود السماسرة والمهربين , الذين يعرضون على المهاجرين الانتقال إلى بلد أفضل مقابل المزيد من الأموال , قرر محمود الدفع بما تبقى لديه من نقود , والانتقال نحو النمسا , وبعد رحلة التهريب المضنية وصلوا إلى النمسا , وأوصاهم المهرب بعدم تسليم أنفسهم للشرطة , وإلا ستعيدهم إلى كرواتيا , حيث أنهم " بصموا " هناك ولا يستطيعون الاقامة في بلد آخر .
أقام محمود وزوجته وابنهما لدى سيدة عجوز نمساوية , عطفت عليهم وأجرت لهم غرفة لديها , وكانت تساعدهم وتقدم لهم كل ما يلزم , لأنهم لا يستطيعون الخروج خوفا من القاء القبض عليهم , غير أنه وفي حملة تفتيش واسعة وصلت الشرطة إليهم , واعتقلتهم والمئات من المهاجرين وأعادتهم مرة أخرى إلى كرواتيا .
حزنت العجوز النمساوية وقررت الاحتجاج بطريقتها الخاصة على ابعاد الأسرة الفلسطينية من بيتها , فدعت جيرانها من النمساويين والمهاجرين المقيمين في بلدتها الصغيرة إلى التجمع أمام البيت وإضاءة الشموع , ورفع اليافطات المنددة بطرد المهاجرين , وتوسعت عمليات الاحتجاج , وبدأت وسائل الاعلام المحلية تتناول قصة عائلة أبو الطيور الفلسطينية , وباقي المهاجرين المطرودين من النمسا , وبدأ التعاطف يزداد , وانتقل الاحتجاج إلى منتصف البلدة عند مقر البلدية , وتم عرض قضية اسرة أبو الطيور على المجلس البلدي والحكومة المحلية وأجهزة الأمن , وتقرر إعادة الأسرة من كرواتيا , وبدأ البحث عنهم في معسكرات اللاجئين في هناك , وبعد أن تم العثور عليهم , تم ارسال طائرة خاصة لإعادتهم إلى النمسا , وعادوا إلى بيت العجوز النمساوية التي استقبلتهم بالفرح والدموع , وسط مشاعر جياشة من الجيران والمتعاطفين , غير أن سلطات البلدية قررت منحهم بيتا مستقلا , وراتبا شهريا , إلى أن تتم تسوية وضعهم في الاقامة والحصول على العمل ... وهكذا تجلت الانسانية لدى هذه العجوز التي تمكنت من هزم كل الاجراءات العنصرية , كما انتصر القانون لدى دولة متقدمة في أوروبا تنتصر للإنسان , مهما كان دينه أو لونه , بينما المتدينون الجدد من أصحاب الدين الجديد يطلقون عبارات التخوين لمن لا يشاركهم معتقدهم , والتكفير للغير في بلاد الغرب التي تستقبل الملايين من المهاجرين المسلمين , وتفجير انفسهم في الأبرياء منهم , وحين يقفون على منابر المساجد يدعون عليهم بأن " يحصيهم الله عددا , ويبددهم بددا , ولا يذر أو يبقي منهم أحدا ", ويدعون لهم بالموت الزؤام , بينما نحن نقتل بعضنا بعضا , وندمر بلادنا بأيدينا , ونهجر الملايين من أراضينا , بحجة إقامة دولة الاسلام , أو الحفاظ على كرسي الحاكم والسلطان , بينما أولئك " الكفار" يستقبلون المهاجرين بالأحضان , ويتعاطفون معهم , ويحزنون لأوضاعهم وفراقهم , كما حصل مع العجوز النمساوية , وعائلة أبو الطيور الفلسطينية.