العين حقّ والحسد موجود.. ولكن!
كم يستفزُّني أولئكَ الذينَ يعتقدونَ أنَّ اللهَ اصطفاهُم من بينِ البشر؛ ليكونوا عُرضةً لأعينِ الحُسّاد والشّامتين والسَّحَرة.
لا تخلو أحاديثُهم من عباراتٍ تُوحي بأنَّ كلَّ ما يتعرضون له منْ عوائقَ ومطباّت وحتى أمراض هي نتيجةٌ حتميّة لعينٍ أصابتهم وهم يمرّون أمامَ أحدٍ ما أو ربما خلالَ جلسةٍ مع الأصدقاء والأقارب.
يتكلّمونَ عن تلكَ العين بلغةٍ إِنْ دلَّتْ فإنَّما تدلّ على أنّهم محورُ الكون، يتكلّمون وهم واثقونَ تماماً أنَّ الأسبابِ الكامنة وراءَ عرقلةِ أمورِ حياتهم إنّما هو بفعلِ فاعل، فالجميعُ -اللّهم لا حسد- يُعانون من «التّابعة» كما يُسميها أهلُ المغرب العربي وُيعانونَ أيضاً مِنَ «العين» التي تترّصدهم أينما حلُّوا ومِن «السّحر» الذي عَجِزَ عن شفائه أطباءُ العالم.
مِنَ القصص الطريفة التي أذكرُها أنّني اجتمعتُ يوماً مع سيّدة في العقد الخامس من العمر، كانتْ تشتكي في ذلكَ اليوم من آلامٍ في الرّأس مع شعورٍ بالدَّوَران. صمتتْ لبُرهة ثمَّ رفعتْ حاجبَها قائلة: «صابوني بالعين»!
في بادئ الأمر، بدا لي ما قالتْه كَنُكتة، إلى أنْ قمتُ بسؤالها إنْ كانت تقولُ ذلك من بابِ المُزاح أو الدُّعابة ولكنّها أجابتني بجديّة واثقةً من أنَّ آلامَ رأسِها يعودُ لعينٍ «لم تصلّي على النبيّ»، واصفةً إيّاي بأنّني على نيّاتي، ويجبُ أن أكونَ أكثرَ حَذَراً، فالعينُ حق على حدّ قولها.
إلاَّ أنّني ومنْ خلالِ سياقِ الحديث اكتشفتُ أنّها لم تتناولْ طعام الفطور، بالإضافة إلى أنّها كانتْ في أحد «الحمّامات» التي يرتادُها معظم الجزائريين والجزائريات للاستحمام وهي عادةً ما تعتمدُ على البخار والحرارة العالية، أي أنّ أسباب آلام رأسها واضحة ولا يمكن أن تكون بسببٍ العينِ التي تكلّمت عنها بثقة.
ولا أنسى أيضاً قصة ذلكَ الصّبي الذي لا تتوانّى والدتُه في إحالةِ كلّ ما يتعرّض له من ضَرَبات وسَقَطات ولَكَمات من أولاد الجيران وأبناء العمومة وسواهم إلى العين وأخواتها، مع أنّ النّاظر لحالهِ يرى ولداً من شدّة شَغَبه وشيْطنته يبدو وكأنّه «شاقق الأرض وطالع» ومن المُستبعد أن يفكر أحدٌ ما في إصابتِهِ بالعين.
مثلُ هذه القصص وسواها كثيرةٌ في مجتمعاتنا خاصةً تلكَ التي تؤمنُ بهذه المُعتقدات إلى درجة تحوّلها إلى وسواس، فكلّنا لدينا تلكَ الصّديقة التي أخفتْ عن صديقاتها وأقاربها موضوعَ خطبتها وصورة زوجِها المستقبليّ خوفاً منها عليه واجتناباً لعينٍ قد تُصيبهما فتحوّلُ قصتهما الجميلة إلى انفصالٍ ومأساة.
أو ذلكَ الصديق الذي كلّما سألته عن حالهِ أجابكَ بـ»موشّح» من الشّكاوى يستحقُ أن ينالَ عليها جائزة الأوسكار عن أكثرِ شخصٍ يشكو في العالم ظناً منه أنّها وسيلةٌ ناجحة لإبعادِ ذبذباتِ عينِ صاحبه التي لا تحبُّ له الخيرَ والسَّعادة.
كلّنا لدينا أيضاً ذلك الذي يدّعي المرضَ والفقر وضيقَ الحال في حين أنَّ اللهَ أنعمَ عليه بكلّ النعم التي يفتقدها الكثير، مُتناسياً أنّه «قُل لن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا»، وبأنّ الله -عزَّ وجلّ- يحبُّ أن يرى أثرَ نعمتهِ على عبده.
أصبحنا وكأنّنا «شعبُ اللهِ المختار» نربطُ كلّ فشلٍ في حياتِنا بالعين، نخافُ أن نُخبرَ من حولنا عن سيارتنا الجديدة، وبيتنا الجديد، نُخفي نجاحاتنا، وأخبارنا السَّعيدة، نخاف أنْ نُظهِر صورَ أطفالنا إلى الملأ خشيةً عليهم من عينٍ طائشة مع أن المواقعَ مليئةٌ بصورِ الأطفال الجميلة والتي دائماً ما تدفعُني لأتساءل هل يُصابُ الأوروبيون وأطفالُهم بالعينِ أم أنّنا نحنُ فقط من نتميّز في كلّ شيء حتى حَبَانا الله هذه النعمة؟
أقول عنها «نعمة»؛ لأنَّ البعضَ يعتبرُها كذلك فكلّما كنتَ إنساناً تُصابُ بالعينِ على كلّ حركةٍ تقومُ بها فهذا يعني قطعاً أنّكَ إنسانٌ مميّز ومرغوبٌ والكونُ كلّه يغارُ منكَ ويحسدكَ على ما أنتَ فيه.
نعم إنّنا نؤمن بأنَّ العين حقّ، وبأنها قد تؤدي بصاحبها إلى الموت، كما قالّ رسوُلنا الكريم، وبأنّ اللهّ -عزَّ وجلّ- قال في القرآن، على لسانِ النّبي يعقوب مُخاطِباً أبناءه: «لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ»، خوفاً عليهم من العين التي قدِ تصيبهم لما يتميّزون به من جمال وهيْبة.
ولكن عندما يصبحُ الإيمانُ بالعينِ وسواها مرضاً يدفعُ بصاحبهِ إلى الانطواءِ والاكتئابِ والشّك في كلّ مَن حولَه عندها يُصبحُ مجرّدَ شمّاعة نعلّقُ عليها فَشَلنا وقلّة حيلتِنا أمامَ مُواجهةِ أخطائنا ومشاكلنا.
فَكلّما كانَ الإيمانُ ضعيفاً ازدادتِ الشّكوكُ والهواجسُ وكلّما أصبحنا أسرى لعبارات من مثل: «عندي التّابعة» و»صابوني بالعين»، وغيرها. هوفنبوست