كما المعتاد، جلسن لتبادل أطراف الحديث، ولكن الفارق اليوم أنها من سيدير الجلسة، بعد أن اعتادوا على صمتها في أغلب اجتماعاتهن. اليوم هي من سيتكلم، أما الباقيات، فهن آذان مصغية لا أكثر.
لم ترغب بالكلام في بادئ الأمر، إلا أن إصرارهن أجبرها على البوح بما عايشته في الفترة الماضية. وكيف لا يدفعهن حسهن الفضولي بإجبارها على التكلم، وهي من غيبها المعتقل ثلاثة أشهر لم تحصد منها سوى آثار تعذيب على وجهها وفي مختلف جسدها؟!
استوت في جلستها، وأمعنت النظر في وردة الخزامى الموضوعة أمامها على الطاولة، تتلقف من بتلاتها أحداث المعتقل لتقرأها على صديقاتها. منذ أن دخلت غرفة الجلوس، شعرت بحنو هذه الوردة عليها، وكأنما كانت شاهدة على ما تعرضت له داخل تلك الزنزانة.
منذ أن دخلت غرفة الجلوس، علمت بأن هذه الوردة ستحتضن دموعها وتلقيها حياة للجذور، أما صديقاتها فلن يعين من الحكاية سوى أحداث وصور، ليس أكثر.
«علمت بأن الحدود قد فتحت أمام النازحين، وأصبح بإمكانهم العودة إما للاستقرار أو لتفقد ممتلكاتهم. فقررت الذهاب الى ما خلف الحدود ليس لأنني نازحة من بلدي، أو لأتفقد رزقاً قد ضاع سُدى بسبب مدفعية هنا أو طلقة قناص هناك، ولكن تلبية لأصوات قد أهلكت سمعي وأثقلت تفكيري. فمن ذاك الذي باستطاعته إسكات الأصوات إن صدحت وتعالت؟! تلك الاصوات تسألني معاتبة: «إذا جن الليل واشتدت ظلامته على جارك، ألا تقصدين داره، فتسألين عن أحواله؟».
«انطلقت الى الحدود مع والدي؛ والدي الذي لا يعبأ لحياته، عندما تطلب عيناي دون الكلام، فللعينين لغة اسمها الومى. أوَلم تسمعن بها من قبل؟».
سكتت قليلاً، تهدئ من روع دمعة كادت تتهالك من مدمعها، وعاودت النظر في وردة الخزامى، فرأتها كما عهدتها منذ دخولها غرفة الجلوس، تحنو عليها، تهب من بتلاتها منديلاً تمسح بها دمعها إن أرادت.
أكملت تسرد القصة على مسمع من صديقاتها: «على الرغم من أن والدي يدرك ما قد يكون في انتظاره إن تلقتنا نقطة التفتيش، لكنه ضرب بعرض الحائط ذاك الماضي، علّ السنين رمت بالأحداث المنصرمة في طي النسيان.
وصلنا إلى الحاجز، أوقف والدي السيارة على محاذاة عسكري بدأ يجول بنظره بيننا وبين المقاعد الخلفية، وبعد هنيهة، طلب أوراقنا الثبوتية. امتثلنا لأوامره، وسلمناه هوياتنا. دخل الى غرفة شيدت قريبة من نقطة التفتيش. انتظرنا مطولاً رغم أن السيارات أمامنا لم تأخذ ذاك الوقت لتجاوز الحاجز. نظرت إلى والدي والحيرة تكاد تلتهم عيني، أردت أن ألتمس منه إجابة لكنه لم يلتفت إليّ. لم أرَ على وجهه سوى شريط يعيد أحداثاً كان قد عايشها، ويقيناً أن ذاك الماضي سوف يعيد نفسه معه اليوم.
كان والدي في حالة ترقب لذاك اليقين.
أتى العسكري يرافقه الضابط، نادى على والدي باسمه. والدي الذي لم يرضخ لحرب، ولا لسلاح، فهل لضابط أن يتغلب على تلك العزيمة والإصرار؟ وقف مواجهاً له حتى كادت الجبهتان تلتصقان. نظر إلى أبي وشظايا الغضب تتطاير من عيونه، وقال: «خذوه».
كانت لا تزال تنظر إلى وردة الخزامى. يا لها من وردة عطوفة وصبورة، لا تتأفف من دموعها، ولا تنهاها عن البكاء. جالت بنظرها بين صديقاتها، فلم ترَ في أعينهن سوى فضول يلحقه تململ يردن الأحداث بدلاً من الحالة. أعادت نظرها إلى وردة الخزامى، لا تأبه لصديقاتها. فهذه قصتها، وسوف ترويها كما يحلو لها، لمن يحلو لها.
«أمسكوا يديه بقوة ودفعوه إلى الأمام، فما كان منّي إلا أن ركضت نحوهم أدفعهم عنه، وأصرخ في وجههم حتى كاد الدم يتفجر من حنجرتي، لكن محاولاتي باءت بالفشل، فقد رموني أرضاً. استقمت بالسرعة التي رميت بها، أعدت المحاولة، أردت أن يعتقوه، أن يحرروه، أن يأخذوني بدلاً منه، هذا والدي من أفنى العمر لأجلي، أيعقل لي أن أراه مكبلاً بلا حول ولا قوة، أن أراه مقتاداً ضعيفاً، وهو القائد بنظري. نظرت إلى الضابط، دنوت نحوه صارخة: «دعوه، لم يفعل شيئاً، دعونا نعود من حيث أتينا». ضحك باستهزاء، وأشاح بنظره إلى حيث اقتادوا أبي. أثارتني ضحكته الباردة، فما كان منّي إلا أن صفعته بكل ما أملك من قوة على خده. نظر إليّ كبركان ثائر وبحركات سريعة أمسك بي من كتفي، ورمى بي في خلفية مركبتهم العسكرية حيث يجلس أبي. بعد أن استويت في جلستي مواجهة لوالدي، نظرت إليه وضحكت بثقة لم أعتدها من قبل، وقلت له: «لا تخَف فأنا معك ولن أفارقك أبداً. أبي نحن لسنا بسجناء، بل، والله، إننا نحن الطلقاء».
سمع أحد العسكريين ما قد قلته فضحك باستهزاء، وأغلق باب الشاحنة الحديدي بقوة، ظناً منه أنه قيد حريتنا، وانتصر علينا. لكنه لم يعلم أن السجون أقامها ضعاف القوم لحماية أنفسهم من أشدائها.
وقفت مركبتهم أمام مبنى مهجور كانوا قد اتخذوا منه مركزاً لهم. اقتادونا إلى الداخل حيث فرقوا بيننا في غرفتين مواجهتين لبعضهما البعض، يفصل بينهما ممر ضيق معتم. حاولت اللحاق بأبي إلى غرفة حجزه، وأنا التي وعدته أنني لن أفارقه أبداً، إلا أن أياديهم كانت تسحبني في الاتجاه المعاكس. التفتّ إلى الوراء لأرى والدي، فلم ألمحه، حاولت أن أناديه فدفعوني إلى داخل الغرفة بقوة وأغلقوا بابها. ركضت نحو الباب، التصقت به حتى أحسست بأن جسدي أمسى قطعة منه، علني بهذا الشعور أتخطى حاجز الأبواب، فيسمعني والدي عندما أكلمه.
«يا والدي، هل تسمعني؟» ناديت عليه لأستمد من صوته القوة، ولأشعر ولو للحظات أن ذاك الممر الكئيب قد أمسى جسراً تعبر من خلاله أصواتنا. أردت أن أبحث في تلك الغرفة ولو عن ذرة أمل، حتى لو خيل إليّ أنني أبحث عن إبرة في جبل من القش. «نعم، لم يحِن وقت الاستسلام بعد، ولن نهلك يا أبي». هذا ما قد حدثتني به نفسي، فأكملت مناداتي أحاول التواصل معه: «لا تجبني، يكفيني أن أسمع طرقك على الباب».
انتظرت قليلاً، لكن لم أسمع سوى خفقات انهالت على قلبي مدراراً. كنت على وشك الانهيار كمن حلت به فجيعة، كيف لا، والعصا التي أتكئ عليها أراها خلف الأبواب منكسرة، محطمة، ومهزومة، تكاد تخر من الهم والحزن. تمالكت نفسي، «لا لن نهلك -نحن الاثنين- على أحدنا أن يكون الطرف القوي في هذا الظرف العصيب، واليوم، حان الوقت كي أكون عصا أبي يتكئ عليّ لكي نستمر ونحيا»، حدثت نفسي وقد بلغني نفاد الصبر من الضعف ملياً. رفعت صوتي هذه المرة عالياً، وأكملت:
«يا أبي، كنت قد وعدتك أن أبقى بجانبك، وها أنا أصدق وعدي معك. قد تفصل بيننا الأبواب، ولكن من ذاك الذي يستطيع أن يوصدها أمام الأصوات عند صدحها. من ذاك الذي يستطيع إسكات الرعد عند دويه، الريح عند صفيرها، والموج عند تكسره. يا أبي، لست أعاتبك اليوم على مصابنا، لا والله، وإن السجن أحب إليّ من الخارج. فهنا فقط شعرت بالنصر.
يا والدي لا تضعفن عزيمتك القضبان، فتجعلك طريحاً متهالكاً، يجتمعون فوقك، فيجمعون على الاستقواء والتمرد عليك. يا أبي أنت القوي، وإلا ما هابوك وحقدوا عليك بعد كل تلك السنين. نحن الأقوياء وهم الضعفاء إن شاء الله».
سكت قليلاً، وإذ بي أسمع طرقاً على باب غرفته يتعالى شيئاً فشيئاً. أشرقت عيناي فرحاً، والبسمة لم يسعها وجهي، إنه يسمعني! فأكملت أحدثه كي يقوى بصوتي، فكلما تكلمت، زاد الطرق على بابه، فأقوى بطرقه، حتى هيمنت على الغرفتين حالة تمرد صوتية ذات عناصر متناغمة. وبعد لحظات قليلة، انضمت إلى موسيقانا، خفق نعلين متمرد على حالتنا، فقد جاء الضابط كالمجنون بعد أن أعيته الأصوات. فتح باب غرفتي حتى رماني أرضاً، خفت صوتي، وطرق الباب، وتمرد نعليه. نزع عن خصره حزامه، وبدأ يضربني بكل ما أوتي من قوة، يثأر لكفّ كان قد طبع على خده، ولأصوات كانت قد أقلقت سكينته.
مع كل ضربة من حزامه، كنت أزداد عناداً وجبروتاً على الألم. مع كل ضربة، كنت أصرخ «فداك يا والدي روحي وكياني»، ومع كل صوت كان طرق الباب يتعالى، وفي المقابل كان قرع الحزام يخفت.
استمر هذا المخاض حتى شعرت بأنه حلقة مغلقة؛ ضربة حزام، فنداء، فطرق على الباب. وقد أمست تلك الحلقة لا تنحل إلا باستسلام أحد عناصرها. أما أنا فقد قطعت على نفسي عهداً، بتراجعي عنه يعني هلاكي أنا ووالدي؛ لذا صبرت على قهر ذاك الضابط الذي اشتد به الغضب حتى بانت عروق وجهه ورغوة زبد تجمعت عند فمه قام ببصقها في وجهي، أمسك به وقد أحكم قبضته على فكي حتى سمعت طقطقة عظامه، نظر إليّ بغيظ، ودفع بي بعيداً عنه، أدار ظهره، وبخطوات سريعة مذلولة خرج من الغرفة تاركاً بابها مفتوحاً. افترشت الأرض أريح جسدي من عناء الحزام، وأنا أهمس «فداك يا والدي روحي وكياني» فما كنت أسمع من الغرفة المقابلة سوى نقر خفيف على بابها.
سرحت نظري في حيطان الغرفة لأتناسى الألم وأبحث عن ذرة أمل أخرى، فرأيت رسم وردة الخزامى ينظر إليّ بحنو، فابتسمت له وقلت: «من ذاك الذي يستطيع أن يوصد الأصوات عند صدحها. من ذاك الذي يستطيع إسكات الرعد عند دويه، الريح عند صفيرها، والموج عند تكسره».
نظرت مطولاً إلى تلك الوردة حتى استسلمت عيناي لملك النوم، فأكون من بعد الثبات عصا والدي يستند إليها، فنمضي عائدين إلى بلادنا.
«هذه قصة قصيرة بقلمي لكني أعتقد أنها تحدث في زمننا هذا كل يوم وباتت حقيقة «