رجوعي للعمل في البلد العزيز الكويت

بقلم الدكتور عبدالله الفرا   

كما اسلفت في الحلقة السابقة فلقد سافرت للعمل في جامعة البحرين لاستقبل من لجنة استقبال الأساتذة بتكريم بالغ واعيش لبضعة أيام داخل فندق خمس نجوم ثم انتقل الى منزلى الجديد بمنطقة الرفاع الغربي وهو من الاحياء الراقية وكان المنزل عبارة عن فيلا كبيرة  فخمة مكيفة مركزيا ومكونة من دورين  بجراج منفصل وحديقة امامية وأخرى خلفية بها أشجار فاكهة ومفروشة بالكامل باثاث انيق وحديث

.قضيت في البحرين سنتين سعيدا  جدا بالعمل والتعامل مع اهل البحرين الكرام وكانت علاقتى بطلبتى  علاقة الاب بابنائه .ما كان يزعجنى هناك  فقط هو ان اسرتي من زوجة وأبناء لم يرافقوني للسكن في البحرين بل اصروا على البقاء في الكويت رغم توفر العمل للزوجة والمدارس المجانية للابناء فقد كان جميع افراد عائلتى يعتبرون انفسهم كويتيون حتى النخاع والواقع ان  كل من عاش في ارض الكويت ونتيجة للمعاملة الجيدة التي كانوا يعاملون بها قد احبوا الكويت حبهم لاوطانهم . اما الزوجة فقد كانت لا تريد لى ان اظل اعمل في البحرين فبالاضافة لاعجابها بالكويت واعتزازها بالعمل كمشرفة فنية  في مدارسها المتوسطة  ومن ثم تكوين الكثير من الصداقات العميقة مع زميلاتها فقد كان هناك عاملا اخر احسست به وهو الغيرة النسائية حيث ان ما لاحظته عند قدومها للبحرين ومما سمعته كذلك من ان هامش الحرية التي تتمتع به النساء في البحرين أوسع كثيرا من نظيره في دول الخليج الأخرى ومن ضمنها الكويت  فما بالك وهي قد عرفت ان الغالبية العظمى من طلاب الجامعة في البحرين هن من الاناث .وحلا لمشكلة البعاد عن اسرتي  في الكويت فقد كنت اسافر وكل أسبوعين الى الكويت والتي لا تبعد اكثر من 45 دقيقة طيران حيث اسافر عصر الخميس الى الكويت لاعود صباح السبت الى البحرين .

استمر الحال على هذا المنوال حوالى السنتين الى ان حدثت تلك الحادثة المشؤمة حيث وفي يوم 25 مايو عام 1985 حدثت حادثة مشؤمة اذ تعرض موكب سمو امير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح رحمه الله الى اعتداء إرهابي كان القصد منه اغتيال سمو الأمير ومن ثم خلق الفوضى في البلد المستقر الحبيب الكويت وعليه فلقد أغلقت منافذ البلاد ومن ضمنها مطار الكويت . وبما اننى خلال هذه الأيام كنت في الكويت ومن ثم اصبت بالقلق باننى لن استطيع العودة الى البحرين فى الموعد المحدد ومن ثم ربما اتاخر عن عملى .الحمد لله  لم يستمر اغلاق المطار أياما طويلة بل تم افتتاحه بمجرد ان تمت السيطرة على الوضع العام ومن ثم عودة الحياة لمجراها الطبيعي وهكذا عدت للبحرين ولكن كانت هذه الحادثة بمثابة جرس انذار استغلته زوجتى وقرعته بصوت مجلجل وطالبتنى بالعودة والعيش مع الاسرة في الكويت وكانت تلح على كلما حادثتنى في الهاتف وتكرر هذا الطلب مما جعلنى أقول لها  وفى كل مرة انا على الاستعداد للعودة حينما اجد الوظيفة اللائقة .

انتهى العام الدراسى 1985 وعدت الى الكويت لاقضى إجازة الصيف مع اسرتي وبعد وصولي من المطار الى المنزل ناولتنى زوجتى قصاصة ورق من جريدة كويتية  قالت لي ان هذه الوظيفة تناسبك وقد اعطتنى إياها اختى سلوى بعدما اقتطعتها من جريدة القبس الكويتية  من أسبوع لاعطيها لك . قرات الإعلان عن الوظيفة فاذا به من معهد الكويت للأبحاث العلمية الذي يقع في الشويخ ويطلب فيها وظيفة باحث اول لادارة التعليم والتدريب بالمعهد . المهم قرأت الورقة بغير اكتراث فانا لا اعرف الكثير عن هذا المعهد وكما كنت اظن انه اقل من مستوى جامعة  ومن ثم وضعت الورقة في جيبب قميصى بدون اكتراث.

بعد يومين كان من الضروري ان اذهب لسوق الجملة بالكويت او ما يطلق علية السيف لاشترى الخضار والفواكه لتموين المنزل  بالفعل ركبت سيارة زوجتى وعن طريق شارع الدائري الرابع حيث منزلنا سرت حتى وصلت الى السيف واشتريت ما يلزمنى  من الخضار والفواكه ومن ثم قررت الذهاب  لشراء البقالة من الزيت والسكر ..الخ وهذه تباع قريبا جدا من مكان السيف في منطقة  تسمى الشويخ  وهكذا اتجهت الى طريق الشويخ

بعد بضعة كيلومترات فوجئت بان الطريق الرئيسى مغلق للتصليحات ويطلبون من السائق ان يسير في التحويلة المقامة في منطقة الإصلاحات وبعد ذلك يستأنف الطريق العادي . بالطبع سرت في طريق التحويلة ولكن ما ان سرت  مسافة كيلومتر واحد لاجد نفسى تماما امام يافطة مكتوب عليها معهد الكويت للأبحاث العلمية Kuwait Institute for Scientific Research KSRوموضوعة فوق البوابة الكبيرة للمعهد . هنا تذكرت قصاصة ورقة الإعلان و وقلت بما ان الله أراد لي ان اسير في هذا الطريق ودون تخطيط فلماذا لا اسأل ضابط الامن والحراسة عن أي معلومات حول المعهد لعلها تكون مفيدة

وهكذا أوقفت السيارة وخطوت نحو البوابة وبدأت في التحاور مع الضابط الامن والسلامة المسؤول عن الامن والسلامة واذا بي اجد يمر بالقرب من البوابة  ومن الداخل الأستاذ عماد الريس وهو صديق عرفته اثناء ما كان يعمل مدرسا في وزارة التربية الكويتية ثم سافر لبريطانيا للحصول على درجة الماجستير في الكمياء الحيوية وها انا  الان اجده  امامي في المعهد ولسبب ما . بالطبع ناديت على عماد والذي تبسم لي وقال لضابط الحراسة ان يسمح لى بالدخول وهكذا دخلت فعرفت منه انه يعمل في المعهد منذ سنوات .وقال لي انه سعيد جدا بالعمل هنا فهو واحة غربية وسط ارض كويتية بمعنى انه لا يتبع أي وزارة بل هو هيئة مستقلة وتتبع الأمير مباشرة ولوائحة مثل لوائح معهد مسوسيستش التكنولوجي  الأمريكي االعالمي الأشهر ومن ثم فهو اعلى رتبة من الجامعة ومزاياه اكثر من جامعة الكويت ويعمل في المعهد نخبة مختارة من العقول العربية  من أمثال د. فينيس جودة ( أصبحت وزيرة البحث العلمي في مصر) وعلى الجمال ( اصبح مدير عام مؤسسة التأمينات الاجتماعية بمصر بدرجة وزير) واسامة الخولي وكان يعمل ملحقا تعليميا بسفارة مصر بموسكو أيام الرئيس عبد الناصر والدكتور سراج الدين ( واعتقد انه اصبح وزيرا للاقتصاد في مصر) وغير ذلك الكثير وهكذا وجدت نفسى امام وضعا جديدا لم اكن اتصوره . بعد ان انهى كلامه عن المعهد سالنى عن سبب حضوري فقلت له عن اعلان قصاصة الورق فقال لي لا تحلم كثيرا بالوظيفة فهم في العادة يعلنون عن الوظيفة بعد ان يكونوا قد اشغلوها وهم يضعون الإعلان رفع عتب لان القانون يلزمهم بالاعلان ولكنه اردف تعال لنذهب لقسم القوى البشريةHR للحصول على الطلبات وومن ثم  سرت معه وسط معهد ذو غرف واقسام منظمة ونظيفة ومظاهر البذخ واضحة من خلال اثاث المكاتب او أشجار الزينة الكبيرة الداخلية المتناثرة في كل ركن او من خلال اناقة الموظفات من السكرتارية وهن من جنسيات  مختلفة اجنبية ومصرية ولبنانية وشامية ويلبسن الأزياء الانيقة او من خلال الكمبيوترات الموجودة امام كل موظف في وقت كان فيه وجود كمبيوتر شخصى واحد مجرد امل تقتنيه إدارة او قسم بكامله .

في طريق العودة للمنزل وقد اخذت طلبات العمل ,دارت بذهنى الكثير من الأفكار واصبح كلام عماد الريس بان الوظيفة قد شغلت او على وشك ان تشغل يرن في اذني واصبح العمل بالمعهد  تحدي وايضا امنية حلوة اتمناها  الما كنت شخصا يحب الاقدام على التجديد و خوض المغامرات فقد لذ لي هذا التحدي .

حينما عدت للمنزل اتصلت باخي الأكبر الدكتور محمد على لاعرض عليه الامر فاذا به يشجعننى جدا ويقول لى ان له بعض الأصدقاء هناك ويود رؤيتهم ومن ثم قال لي دعنا نذهب غدا صباحا للمعهد. وهكذا ذهبنا في صبيحة اليوم التالى للمعهد حيث وجهتنى القوى البشرية لاتقابل مع نائب مدير المعهد لشؤن التدريب الدكتور هشام غالب وشخصية مفتاحية حيث وكما عرفت انه  زميل وصديق للمدير العام للمعهد الدكتور عدنان شهاب الدين حيث انهما خريجا تخصص واحد وهو الفيزياء النووية من احدى الجامعات الامريكية المرموقة ,  وكان الدكتور غالب يشغل قبل ذلك وبالاضافة الى عمله مديرا لادارة التدريب بالمعهد ,تقابلت مع الدكتور غالب وكان لشخصيته القوية اثر خاص جعلنى اقرر ان اتحفظ في كل كلمة انطق بها امامه  . استقبلنى الدكتور غالب بترحاب وتفحصنى جيدا من خلف نظارته السميكة  ثم  قام وفي معرض حديثه بسؤالى سؤالا عن مدى معرفتى بالاهداف السلوكية فابتسمت وقلت له اننى ادرس هذه الأهداف لطلابي بالجامعة فهى تتبع أي الأهداف السلوكية منظومة بنيامين بلوم وسميت باسمه Bloom Texonomy  وبدات في شرح هذه الأهداف ومستوياتها وهنا اتصل هاتفيا بمدير إدارة التدريب الدكتورة نجلاء النصار وقال لها سارسل لك شخصا واعدا Promising Guy   لتقابليه . هكذا ذهبت الى الدكتورة نجلاء وجدتها سيدة  شابة انيقة واثقة الشخصية وذات حديث لبق مهذب وتتصرف وفق الاتيكيت , وبعد ان تكلمنا لدقائق معدودة  اخبرتنى ان من سيقابلنى هو مستشارها الإنجليزي ومن ثم سوف يتصلون بي هاتفيا لتحديد موعد المقابلة وفعلا مساء ذلك اليوم اتصلت بي القوى البشرية هاتفيا لتبلغنى بان المقابلة ستكون  غدا في المعهد في إدارة التدريب وهكذا حضرت اليوم التالي لاجد المستشار (اعتقد ان اسمه كان مستر او د. سميث )في انتظاري ومن ثم طلب منى الجلوس وبابتسامة مشجعة اخذ يسألنى عن حياتي في البحرين وسبب التفكير في الاستقالة من الجامعة وبعدها سألنى عن خططي خلال الخمس سنوات القادمة  وهنا سكتّ ولم أتكلم فاعاد على السؤال ولكنى هذه المرة ضحكت فقال لي لماذا لم تجب الم تفهم السؤال فقلت  بلى لقد فهمت السؤال ولكن وللامانة لا توجد لدي أي اجابة بمعنى لاخطط  لدي وبما معناه تارك الامر لمشيئة الله فكل يأخذ ما كتبه الله له  وحينما بدات عليه علامات التعجب قلت له يا سيدي نحن هنا في بلاد الاقدار هي التي تسيرنا وتكتب مستقبلنا وقلت له ان تقديمي لهذه الوظيفة مثلا لم يكن وليد تخطيط بل الله اقفل الطريق الرئيسى لسيارتي فسرت في طريق التحويلة لاجد يافطة المعهد امامي لاجد صديقا امام البوابه   يعنى كلها ترتيب  في ترتيب من القدر ومن ثم ما فائدة التخطيط اذا كان القدر هو الأقوى؟؟  هنا ضحك المستشار ضحكة عالية وقال لقد صدقت تماما  فانا المفروض ان أكون اليوم في بريطانيا اقضى مع اسرتى التي سبقتنى الاجازة حيث كان موعد سفري معها  قبل يومين ولكن تأجل في اللحظة الأخيرة وقبلت بالتاجيل وانا كاره لذلك وهكذا فبدلا من ان أكون الان مع اولادي نتسوق او ننعم بالجو اللطيف هانذا معك أيان خطتى للسفر لم تنجح . انتهت المقابلة وقيل لي سوف اخبر بالنتيجة قريبا .بعد يوم واحد  تم اتصال القوى البشرية بي وطلب منى الحضور لاستلام عرض العمل. حينما قرأت العرض كان المسمى الوظيفى باحث اول (يسمى مستشار عرفا )اما المزايا فقد كانت  بالنسبة لي اكثر كثيرا مما كنت أتوقع الراتب كان اكثر من راتبى بالبحرين بحوالي الضعف المزايا كثيرة سكن فاخر تامين على الحياة لي ولاسرتي بدل تعليم أولاد في مدارس اجنبية ...الخ بالطبع وافقت على العرض وحينما ذهبت لتوقيعه معهم فوجئت بانهم يقولون لي ان لجنة التقييم وجدت ان هناك خطأ في العرض حيث انهم اعطوني درجة اعلى مما استحق  الدرجة الرابعة عشرة ( اعلى درجة في المعهد كانت السادسة او السابعة عشرة وهي درجة  المدير العام للمعهد ) ومن ثم فالوضع الصحيح هو ان اهبط درجة وسيتبع هذا خسارة  عدد من المزايا وخفض الراتب قليلا . كانت صدمة وهنا رفضت التوقيع ورجعت للمنزل بحالة من الغيظ  والإصرار وحالة  أخرى من الندم  وقررت السفر حالا للبحرين والتحضير لبداية العام الجديد وان انسى موضوع المعهد وهكذا فعلت فقد غادرت الكويت ثالث يوم وبعد نقاش حاد وحاسم مع زوجتى  والتي ادعت اننى لم اتخذ القرار المناسب ومتبطر على النعمة !!

وهكذا عدت الى البحرين لافاجأ وبعد أيام قليلة باتصال زوجتى تقول ان المعهد اتصل بها واخبرها بموافقته على إعادة العرض الأول وانهم حصلوا على موافقة استثنائية لي بان اشغل الدرجة الرابعة عشرة وبناء على توصية الدكتور هشام غالب والدكتورة نجلاء النصار  ثم اردفت المعهد طلب منى تليفونك في البحرين ليتصلوا بك وبالفعل تم الاتصال وتاكيد العرض بالإضافة لاستعدادهم بنقل امتعتى وسيارتي من البحرين للكويت على نفقتهم وكذلك استضافتى واسرتي في بيت ضيافة المعهد لحين تجهيز المنزل الخاص بى.

كان من الطبيعى ان اشعر باننى ربحت التحدى واشعر بشئ من الزهو وهكذا عدت بامتعتى الشخصية مشحونة على نفقتهم اما السيارة فلقد اقترحت على زوجتى ان استبدلها وكانت من نوع نيسان سونى موديل 83 بسيارة مرسيدس 220 اس اخر طراز لون كحلى غامق وكاملة المواصفات واما المنزل فلقد استلمت منزلا كبيرا بمسبح  في بنايات سعود العايش المتميزة المواجهة لفندق الكويت هيلتون وبيت الضيافة هلا وهاوس واعطيت ميزانية كبيرة لتأثيثة حسب ذوقي الخاص  وهكذا وبتاريخ الأول من سبتمبر 1985 رجعت لاستلام العمل في  البلد الحبيب الكويت فما احلى الرجوع اليه !!

 

شارك مع أصدقائك
  • gplus
  • pinterest

أخر الأخبار

لا يوجد أخبار

أحدث التعليقات

    لا يوجد تعليقات

أترك تعليقاً