«الهزيمة».. مُنيت تلك الكلمة بسمعة بائسة منذ اجتمعت حروفها معاً، عندما تُقال، تترك في النفس معاني قاتمة كالخسارة والألم والضعف، وجميعها كلمات يفضّل الناس الابتعاد عنها قدر استطاعتهم، وربما يتحاشون القرب ممن يسوقهم حظهم السيّئ للوقوع فيها!
باولو كويهللو حرّر تلك الكلمة من كل آثام البشر التي علقت بها، وحفر لها نفقاً لتهرب من سجنها الذي حُبِسَت فيه دوماً، وقدمها بشكل رفيع في روايته «مخطوطة وجدت في عكرا».
في روايته جلس رجل قبطي وسط أهل أورشليم عشية الحرب، يحثهم على تبادل المعرفة وسط ذهول الحاضرين، فلماذا قد يهتمون بالمعرفة ليلة حرب؟!
كان للرجل وجهة نظر، وهي أن المعرفة التي ستسكن القلوب أهم من تلك التي يجدونها في الكتب، وأن هذه الساعات ستحفظ لأورشليم ذاكرتها، فقرر أن ينذر نفسه ليُجيب عن أسئلتهم، وبالطبع كان استفسارهم الأول عن الهزيمة.
فكيف لأشخاص سيدخلون حرباً بعد ساعات أن يسألوا عن شيء قبلها؟!
قال أحد الجالسين: حدّثنا عن الهزيمة، فأجاب القبطي: «في دورة الطبيعة.. النصر والهزيمة لا وجود لهما، يكافح الشتاء لكي يكون مهيمناً، ولكنه في النهاية يُجبر على تقبّل نصر الربيع الذي يأتي معه بالزهور والسعادة، يرعى الغزال العشب ويلتهم الأسد الغزال، هي ليست نظرية البقاء للأقوى، بل إنها طريقة الله في أن يظهر لنا دورة الحياة والقيامة».
توقفت عند المعنى الذي يتناقض مع كل ما تربينا عليه، فدوماً يطلب منا أهلنا أن ننتصر، أن نكون في الصف الأول، أن نسعى للحصول على تصفيق الجمهور، قبل الدخول في منافسة أو حتى حديث عابر في جلسة عادية نمتلئ بمشاعر سعينا إلى الانتصار لأفكارنا نخطط لكيفية تحقيقه بمهارة وتركيز حتى من دون تحمّل عناء اختزان الطريقة فهدفنا أن نحرزه الآن، وربما كسرنا كثيراً من مبادئنا وأخلاقنا؛ لنصل إلى الهدف الذي هو في الحقيقة آنيّ جداً وسريع الزوال أيضاً.
نحلم بالورود التي ستتساقط على رؤوسنا؛ لنُجهّز أنفسنا، ونتباهى بكبرياء غير عابئين بأحد، فكيف يمكن أن نرى في الهزيمة شيئاً جميلاً؟!
وأردف بعدها فقال: «خسارة معركة أو أي شيء امتلكناه ستحمل إلينا لحظات من التعاسة، لكن مع زوال هذه اللحظات سنكتشف أن القوة التي بداخلنا ستفاجِئنا وتزيد احترامنا لذواتنا».
أَعدتُ ترتيب دفتر ذكرياتي فوجدت في سجله مكاسب حقيقية تأتي عادةً بعد ما يطلق عليه الناس هزيمة، زاويا لم ألحَظها من قبل، مِنَح لم أمرّن نفسي على التقاطها، وهي التدرب على فهم الضعف؛ ضعفي وضعف الآخرين، كبواتي وأخطائهم، فكما يحمل الضعف سكون الألم يرافقه تأمل ذاتنا، ربما ليست تلك الحالة كما السعادة بالنصر مبهجة، فتشغلنا عن أنفسنا بما حققناه، بل توجّه أنظارنا إلى نفوسنا لنفهمها.
في الهزيمة -حسب وصف البعض- ستعرف معاييرك جيداً، هل حقاً لديك أخلاق أم أنها مجرد كلمات ترددها؟ فما أسهل أن تخطف فرحة النصر بكلمة وإن كانت كذباً! فعليك الآن حسم قرارك أن تبني نشوتك على حساب غيرك، أو أن تبقى على الجانب الآخر نبيلاً خاسراً متألماً؟ ولكن هل يعني هذا ألا ندخل معارك أو ندخلها لنُهزَم؟!
«وحدهم المهزومون يعرفون الحب؛ لأننا في كنف الحب نخوض معاركنا الأولى ونخسرها في العموم».
وكأن الرواية تحدّثني، تجادلني وترد على أسئلتي، فالسؤال التالي كان عن المهزومين، وكانت الإجابة: «المهزومون هم أولئك الذين لم يعرفوا الفشل، فالهزيمة تعني خسارة معركة، أما الفشل فيُثنينا عن مواصلة القتال».
استطاع الرجل هنا أن يربكني للغاية، فلم يعُد الوصف متشابهاً، بل صار معكوساً، فربما خرجت من معركة خاسراً، ولكنك في الحقيقة كسبت نفسك، انتصرت لمبادئك التي سترافقك على مدار حياتك، وليست لحظات النشوة العابرة.
ويكمل: «إن الهزيمة هي لأولئك الذين على الرغم من مخاوفهم يعيشون بحماسة وإيمان، الهزيمة للبواسل وحدهم سيعرفون شرف الخسارة وفرح الربح».
من جديد حولها إلى رغبة مستمرة في الحياة، إلى شغف متواصل لدخول التجارب، فربما منعنا مكسب ما من المجازفة، أما الخسارة فتجعلنا دوماً مستعدّين للتمسك بالأمل، علّنا نحرزه هذه المرة، هي رغبة دائمة في التعلم الذي حتماً سيستمر للأبد؛ لأنه ما من شخص يستطيع أن ينجح في فعل كل شيء وأي شيء، ولكن هناك مَن يخسر فيفكر ويراجع نفسه، وهناك مَن يفشل فينكسر ويبقى حبيس مشاعره التي تحوله إلى وحش قاسٍ لا يعبأ بغيره أو فريسة تنتظر موتاً بطيئاً.
تذكرت زميلي الذي كان يختار دوماً أن يظل بعيداً عن مسرح الحياة، يُنهي عمله جيداً ولا يدخل في نقاشات خارجه، يعتبر مهامه اليومية كافية جداً ولا يفكر في تطوير أي مهارة لديه، هو ذكي ومحبوب، ويُضفي جواً من المرح على كل جلساتنا التي يشارك فيها، ولكنه يخشى الخسارة، يفضل ألا يكسب قلوباً خوفاً من خسارتها تالياً، يرضى من الدنيا بمساحة محدودة، اعتبرها زاويته الآمنة، ذات مرة أقنعناه بأن يذهب معنا لنزهة في البحر، كدنا أن نغرق، صرخنا وضحكنا وتبادلنا وصايا حملناها لمن سينجو، لم يكن قدرنا قد حان ونجونا جميعاً، وكانت هذه لحظة مواتية لينهي علاقته بنا، فقد اعتبرنا سبباً في تجربة موت فاشلة، وهو الذي عاهد نفسه على العيش من دون أية مجازفة، كنت أراه ضعيفاً، ولكنني علمت الآن أنه ليس كذلك، هو مهزوم بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ لأنه رفع راية الاستسلام للاحياة!
حكت لي صديقتي مرة أن أكثر ما يزعجها بعد كل مرة تخسر فيها شيئاً أو شخصاً هي العزلة، تخاف أن تشعر بالوحدة، تخاف أن تختلي بذاتها فتدخل في مساحات رمادية من الحياة لم تطرقها من قبل، تهاب أن تبقى وحدها!
تأملت تلك الجملة قليلاً فيما لم ألتفت لها من قبل كيف تخاف أن تبقى مع نفسها؟ ولماذا نعتقد أن وجودنا في محيط آخرين غيرنا وقت ضعفنا سيكون أكثر فائدة؟ وهل لدينا جميعاً هؤلاء الذين يستحقون أن نلجأ لهم؟
لم يطُل انتظاري، فقد سألت شابة غاب عنها زوجها عن العزلة، فأجاب الرجل: «ليست العزلة غياباً للحب بل مكملاً له، ليست العزلة غياباً للرفقة، بل تلك اللحظة التي تتحرر فيها أرواحنا لتحدثنا وتساعدنا على اتخاذ قرار في شأن حياتنا».
وأكمل : «طوبى لمن لا يخشون العزلة، لمن لا يخشون أن تكون نفسهم رفيقتهم، لمن لا يبحثون دوماً عن فعل شيء يستمتِعون به، أو عن شيء يحكمون عليه».
كم من تجارب دخلناها وخرجنا منها منكسرين، ضائعين نبحث عمن نستند عليه! وكم من مرات كنا نعتقد أننا مهزومون فيما كانت تلك لحظات نادرة تُهدينا فيها الحياة سرّها! أن نبقى وحدنا فنكتشف ونتعلم لنفهم ونواصل.
قبل الخلود إلى النوم كتبت في دفتري: «هؤلاء الذين تعثروا كثيراً، وأغمَضوا أعينهم وداروا حول أنفسهم محتفلين بعناق قطرات المطر والتراب غير عابئين باحتمالية الإصابة بالمرض، ولا بما سيتركه الوحل على ملابسهم، فيما يختبئ البقية خلف جدران مخاوفهم، هم أنفسهم مَن وقعوا في الحب مراتٍ عدة من دون مراعاة لنصائح الآخرين، وهم مَن قرروا اختيار جامعات لم تلفت انتباه أبناء عمومتهم، وهم مَن كسبوا الكثير من الخدوش والجراح الغائرة في مناطق متفرقة من أجسادهم، وهم من دهستهم الحياة في طريقها فصُدِموا في الأحبة، وضيّعوا كثيراً من سنواتهم خلف بعض الأوهام، ولكنهم لم يتوقفوا عن الركض خلف أحلام جديدة خَطوها بأنفسهم، ولم يبقوا طويلاً عند إحصاء جراحهم، بل أحبوا مزيداً من البشر، ورغم ذلك فهموا جيداً حقيقة مَن يستحقون أن يبقوا إلى جوارهم.
هؤلاء لا يتوقفون عن التجربة رغم وجَعِهم، فلديهم قدرة على التقاط زاوية أخرى لكل حدث، هم يعرفون جيداً كيف يتذوقون حلاوة الهزيمة!