ما قبل الذهاب لليمن السعيد
كما سبق واسلفت في الحلقة السابقة فلقد بدات العمل في معهد الكويت للأبحاث العلمية يوم الأول من سبتمبر 1986 وكنت ونتيجة للمركز الجديد مزهوا بنفسى كيف لا وانا ولأول مرة يقال عنى خبير او مستشار في مكان متميز ذو شهرة عالمية .. اما طبيعة عملى فقد كانت في الأساس ان اعمل على تطوير القدرات الإدارية للعاملين في المعهد وكلهم من حملة الدراسات العليا كالماجستير والدكتوراه حيث أقوم باقتراح وتصميم والاشراف على تنفيذ دورات إدارية تدريبية قصيرة لا تمتد لاكثر من أسبوع وفي سبيل ذلك اتراسل مع المحاضرين المناسبين لهذه الدورات من داخل او خارج الكويت مثل أمريكا وبريطانيا وكندا ومصر ومن معاهد او جامعات او مراكز تدريب عالمية مشهورة وحينما تبدأ الدورة وبعد استقبال المحاضرين يكون من واجباتي
الاشراف عليها ومتابعتها وكذلك توزيع شهادات حضور الدورة على الخريجين اثناء حفل الاختتام والذي في العادة لا يخلو من خطاب قصير اعده لالقيه في هذه المناسبة بالطبع هناك بعض المساعدين يساعدوننى لوجستيا في انجاز هذه الاعمال وبعد ان تنتهي الدورة علي تقديم تقرير تحليلى عنها وأيضا تقويم مدى نجاح تلك الدورة في تحقيق الأهداف التي رسمت لها وفى العادة كنت اقترح مالا يقل عن 16 دورة في العام الواحد اما ما بين الدورة والأخرى فكان مطلوبا منى ان اجرى بعض المقابلات مع بعض مما حضروا الدورة او رؤسائهم لارى مدى استفادة المتدرب من الدورة وكذلك حضور بعض الاجتماعات الخاصة مع بعض مسؤولين من مؤسسات الدولة والذين يحضرون الى المعهد ليساعدهم في تطوير موظفيهم وحل المشاكل التنظيمية في مؤسساتهم ومن ثم توقيع العقود اللازمة ..
بعد انقضاء حوالى السنة بدات اشعر بالملل من هذه الاعمال الروتينية وكذلك عدد ساعات العمل الطويلة حيث كنت
اعمل 40 ساعة في خمس أيام عمل من كل أسبوع وفي دوام يبدا التاسعة صباحا لينتهى الخامسة بعد الظهر( أي حرمت من نومة القيلولة التي اعتدتها) في جو الكويت القارى المزعج حيث تصل درجةالحرارة الى ما فوق الخمسين مئوية في اغلب الأحيان ومن ثم تاتي عطلة نهاية الأسبوع الخميس والجمعة فاذا بي لا اريد ان افعل شيئا سوى الاستمتاع
بالكسل اللذيد داخل المنزل حتى لم اعد اجد الرغبة في طالعة أي كتاب او استقبال أي ضيوف .
حينما قارنت هذا العمل بعملى السابق داخل الجامعة وجدت اننى قد فقدت الكثير من الميزات مقابل زيادة في الراتب والذي كان يذهب للبنك دون ان اخذ منه الا اقل القليل حيث ان معظم وجباتي تكون مجانا مع المحاضرين الزوار او الوفود الأخرى وكذلك لا اجد الوقت الكافي للذهاب للأسواق والتمتع بشراء الأشياء وصرف المرتبات !! وجدت نفسى قد أخطأت الاختيار بترك الجامعة حيث كنت اعمل في الجامعة وكاستاذ مساعد 11 ساعة أسبوعيا وخمس ساعات مكتبية
وكنت انظم عملى بحيث لا اعطى أي محاضرات يومي السبت والخميس من كل أسبوع حيث كنت اسافر للكويت لزيارة اسرتي او اقضي ذلك في قراءة الأبحاث المتعلقة بعملى وكتابة البحوث لحضور مؤتمرات او نشرها في المجلات المحكمة وكذلك مقالات انشرها في صحف المجتمع من جرائد او مجلات عادية حيث كنت اكتب في جرائد الوطن ومجلة البيئة وهي صحف كويتية وكذلك كنت امهد لعمل برنامج تلفزيوني في تلفزيون البحرين . ,اثناء عملى بجامعة البحرين كنت اشرف على رسالتين من رسائل الماجستير مما يعطينى رصيدا جيدا للترقى لاصبح أستاذ مشارك
ومن ثم بروفيسور كامل . اما هنا في المعهد فلا امل في الحصول على مثل هذه الدرجات فهذا حق للجامعات فقط كذلك لا يسمح لك بكتابة أي بحث او مقال إلا بالموافقة الخطية من المعهد اما مؤلفاتك من الكتب فلا يوضع عليها اسمك وانما يكتب عليها مطبوعات المعهد وكم كانت صدمتنى قاسية حينما طلب منى نائب مدير المعهد الدكتور هشام غالب وبعدما رأى اننى نشرت بعض المقالات في مجلة المعهد الشهرية وكان يرأس تحريرها الأخ فريد ليان وهو سوري ارمنى دمث الخلق ومثقف ويجيد ستة لغات المهم طلب منى الدكتور هشام ان أقوم بتأليف كتيبين احهم باللغة العربية والأخر بالانجليزية عن "التدريب على رأس العمل
"On the Job Training , وبالفعل اعتصرت وقتى كله لانجز هذا العمل ومن ثم سلمته المخطوطين وبعد أسبوعين طلب منى ان اذهب الى مطبعة المعهد لاراجعهما وبالطبع ذهبت وانا كلى سعادة وثقة بالنفس بان هذا العمل سيحفظ اسمى في وثائق المعهد وسجل التاريخ ولكن حينما ذهبت الى مدير المطبعة وعرفته على نفسي وطلبت منه احضار الكتيبين جاء بعد فترة ليسألنى عن اسمهما لانه لم يجد اسما لي على أي مخطوط !! بعد ان قلت له اسم الكتابين احضر مسودة طباعة الكتييبن وجدت انه لا اسم لي على أي واحد منهما فلمت مدير المطبعة لماذا اغفل اسمي فرد وقال نحن نطبع ما يصلنا كما نستلمه ولا نحذف او نضيف شيئا من عندنا وطلب منى ان اردت الاستفسار ان اذهب للدكتور هشام غالب لتصحيح الوضع وبالفعل ذهبت وانا كلى تعجب ولكنه صدمنى وقال لي ليس من حقك ان تطلب ذكر اسمك فجميع مؤلفات المعهد لا يذكر فيها أسماء المؤلفين وقال لي الظاهر انك لم تقرأ عقد العمل جيدا هذا هو مكتوب وبوضوح في العقد اذ لا يحق لك وضع اسمك على أي كتاب ينشره المعهد وأيضا لا يحق لك نشر أي بحث او تاليف أي كتاب حتى ولو كان خارج نطاق المعهد الا بالموافقة الخطية من المعهد !!وقال لي بنبرة ضاحكة هذه هي القوانين وانت وافقت عليها يا شاطر!!
هنا ما دت بي الأرض وشعرت اننى مجرد موظف محروم من الابداع وانهم اشتروني فيزيائيا وعقليا وابداعيا نظير دنانيرهم المغرية !! كم صعبت على نفسي في تلك اللحظات وافتقدت وجودي في جامعة البحرين حيث كنت ملكا غير متوج بين طلابي كنت قائدا لهم في ابحاثهم ومشرفا على نموهم العلمي كنت انا صاحب الكلمة العليا فيما ادرس او اكتب او أأولف من كتب وابحاث كنت اعشق التدريس وأتمنى ان اعود اليه بدل الجلوس على كرسى وثير دوار اقضى عليه معظم وقتى في عمل اعمال ليس فيها التفاعل الحى مع الطلبة اوالابداع من شيء
هذا وقد لاحظ علي هذا الملل وعدم الرضا الكثير من الاصدقاء ومنهم الصديق العزيز الدكتور صالح جاسم العميد المساعد بكلية التربية بجامعة الكويت والذي كان يشغل وفي نفس الوقت مدير إدارة الثقافة العلمية بمؤسسة الكويت للتقدم العلمي والتي كان يرأس مجلس ادارتها سمو امير الكويت حيث قال لي الدكتور صالح ما رايك ان تعمل معي في إدارة الثقافة العلمية كل يوم خميس من كل أسبوع فانا محتاج لك لتشرف على سلسلة الكتب العلمية التي تود الإدارة نشرها بالطبع شكرت الصديق الدكتور صالح وبالفعل قمت بمراجعة بعضا من الكتب العلمية وكذلك اعداد وتاليف كتبا مشابهة بل أيضا نشرنا معا بحثا علميا تم نشره في مجلة اليونسكوالمحكمة : مجلة التربية الجديدة .
عامل اخر زاد من خيبة املى على عملى في معهد الأبحاث ان كان هناك يعمل معي وفي نفس الإدارة شابا وكان يحمل شهادة الماجستير وكان كويتي الجنسية وشعرت انهم يهيئونه ليشغل وظيفة مفتاحية في الإدارة ومن ثم فمطلوب منى التعاون معه ونقل خبراتي اليه وكان هذا الشخص ذو فكر دينى خاص فقد دأب على انتقاد مظهر النساء فهن في نظره عورة وان ملابسهن فاضحة ومن ثم كان وكما علمت يكتب التقارير السلبية نحو نساء الإدارة غير عابئ بوظيفتهن اذ لا فرق عنده بين مديرة او سكرتيرة فكلهن متبهرجات و وحسب رايه يلبسن ملابس غير محتشمة و تكشف اكثر مما تخفى من مفاتن, ولكنه وللامانة كان حريصا على أداء الصلوات في مواعيدها حتى وان سبب هذا تأخير العمل المناط به . هذا وقد لاحظت انه كان يمتعض حينما يجدني في حديث مع مديرة الإدارة او انها حضرت لمكتبى لمناقشة بعض الأمور ناكرا عليها هذا ومسيئا الظن بي وبها ..كذلك كان غالبا ما كان يدخل مكتبى مباشرة دون اعلام السكرتيرة لكي اذهب معه الى المصلى البعيد نسبيا عن الإدارة لنصلي الظهر او العصر ومن ثم كنت أذهب معه كي لا يصفنى كما يصف الذين لا يحضرون للصلاة بانهم "عصاة " ولمح لي انه مطلوب منى ان أقوم بهداية النساء في قسمنا للتحجب وعدم التباسط مع أي سيدة ولا حتى المديرة مع انها كانت انسانة محترمة وودودة ومن هنا كنت انا بين نارين نار تفكيره وايمانه بصحة ما يفعله ومن ثم وجب على تأييده واصبح داعية مثله والنار الأخرى ان اغض النظرعن تقصيره في العمل المشترك بيننا اذ انه كان لا ينجز أي شيء يكلف به معي لدرجة انه يوم الاجتماع يتغيب رغم اننى كنت ااوكد عليه طيلة الأسبوع بضرورة عمل ما يطلب منه وحضور الاجتماع فيجبنى بكل ثقة: أبشر !! وحينما يأتي يوم الاجتماع لا يحضر!!ونتيجة لذلك كنت انا أقوم بعمل وقائي اذ أقوم بعمل كل ما اطلبه منه من التحضير للاجتماع خوفا من ان اتعرض للاحراج اثناء الاجتماع بان ما طلب منا لم ينجز!!
قصة اخرى جعلتنى ازهد في وظيفة المعهد "المرموقة" واسردها هنا بتحفظ واقتضاب شديدين وهي انه اثناء وجودي في البحرين تكونت لى صداقات كثيرة مع اهل البحرين المهذبين جدا ومن ثم أصبحت ادعى للطعام الى بيوتهم وحينما اعتذر اجدهم يرسلون لي الطعام الى المنزل بل ان بعضهم وكانوا من علية القوم ومن وشخصيات مفتاحية ومن شدة اكرامهم لي ونبل اخلاقهم يحضرون الطعام لنتاوله سويا او يدعوننى الى نوادي البحرين وفنادقها الراقية ومن ثم تكونت علاقات اخوية عميقة مع اسر بعض المسؤلين او بعض الطلاب والطالبات واسرهم ومن ثم حينما حضرت الى الكويت ظللت على اتصال مع الكثيرين منهم ومن ثم كانت يتصل بي بعض الطلاب والطالبات او السيدات من البحرين على تليفون العمل حيث اقضى معظم وقتى وتجنبا لازعاج الزوجة ان اتصلوا على هاتف المنزل وبالطبع لم يكن عندي في ذلك الوقت الموبايل اذ لم يكن قد اخترع بعد وعليه فكان الاتصال يتم عن طريق سكرتيرتي وهي كانت ثرثارة تتباهي بانها تعرف اسرار الناس فاصبحت اشعر انها بمثابة وكالة اخبار توصل كل شيء لكل نساء الدائرة وايضا للعاملين في الإدارة وأصبحت في نظرها او هكذا خيل لها خيالها الخصب باننى دون جوان العصر ونسيت ان سقف حرية المرأة في البحرين اعلى من حرية المرأة في أي بلد عربي بما فيها دول الخليج او مصر اولبنان ومن ثم فلا حرج في ان تتواصل اجتماعيا مع الناس سواء اكانوا رجالا او نساء فحسن النية دائما متوفر .. هكذا اذن وجدت نفسى متهما بلا جريمة وعشيقا بلا عشيقة و رميو بلا جوليت وأصبحت أرى الشك في نظرات من حولى في الإدارة وكان معظم الموظفين فيها وبما فيهم المدير العام من النساء فما بالك ان كن مطلقات او فاتهن قطار الزواج !! وبالطبع تم نقل بعضا من هذه الاحاديث وبطريقة ما للزوجة والتي كنت دائما أقول لها ان الغيرة اكثر من اللزوم مرض وأقول لها إطمئنى فانا في سوق العشق والغرام لا اجد من يشترينى بدرهم !! ولكن على من تقرأ مزاميرك او زابورك يا داوود !!
هكذا اذن اصبح الوضع والذي أصبحت اتبرم منه واتعذب به وأتمنى الخلاص والانطلاق الى رحاب الجامعة ولو بمرتب اقل او بلد اخر
والى اللقاء في حلقة قادمة من رحلة العمل