في الحلقة السابقة أي الخامسة تحدثت عن الظروف الدقيقة والصعبة حينما اخبرت بان عقدى مع معهد الكويت للأبحاث العلمية لن يجدد لفترة أخرى ومن ثم وجدت نفسى في موقف حرج بعد ان انتهت مواعيد التقديم للعمل في الجامعات ومن ثم لقد اتيحت لي فرصة انقاذ نادرة من قبل الأخ الصديق الدكتور رشيد الحمد وكيل مساعد وزارة التربية ( حسبما قيل لي أنه اصبح وزيرا للتربية في سنين لاحقة) حيث عرض على العمل كخبير في إدارة بحوث المناهج وطرق التدريس قسم تكنولوجيا التعليم بوزارة التربية الكويتية وبالفعل قدرت للدكتور الحمد حسن صنيعه معى ومن ثم وطنت نفسى على قبول العرض والذي كان يبدو سخيا بالنسبة للظروف التي كانت محيطة بي آنذاك.
بعد ذلك بيومين عاد الى الكويت الصديق العزيز الأخ الدكتور صالح جاسم بعدما كان مسافرا لفترة قصيرة تخللها حضور مؤتمر تربوي اقليمى ومن ثم بدأ دوامه في مؤسسة الكويت للتقدم العلمى حيث كان وكما سبق ان قلت يعمل كمدير غير متفرغ لادارة الثقافة العلمية بها وحيث اننى كنت وكما قلت أيضا اعمل معه في هذه الإدارة (أيام الخميس من كل أسبوع ) فقد كان من الواجب ان اتقابل معه واهنئه بسلامة العودة وان اطلعه على ما تم من اعمال وعن موضوع عدم النية في تجديد العقد وكذلك عن موضوع العمل المقترح في وزارة التربية الكويتية ولعله لاحظ ان نبرات صوتي لم تكن تدل على رضائي الكامل بهذه الوظيفة وهنا قال لي هناك جامعات تطلب تخصصك ولكنها خارج الكويت فهل انت مصر على العمل في الكويت ؟ فقلت له رغم اننى وجميع افراد اسرتي وفطريا أحببنا ونحب الكويت الا ان المستقبل الوظيفى هو العنصر المتحكم في بلد الاقامه ومن ثم فلقد تأكدت من اننى قد أخطأت حينما تركت وظيفتى الجامعية في البحرين وعدت للعمل في الكويت ولذلك اذا ما اتيحت لي فرصة أخرى للعمل في أي جامعة خارج الكويت فسوف اقبلها بدون تردد ولن افكر في تركها والعودة للكويت مرة أخرى ولكن يا صديقى انا احمل الوثيقة المصرية الفلسطينية ومن ثم فمن الصعب إيجاد مثل هذه الجامعة وبالمناسبة ان احدى جامعات المملكة العربية السعودية بالرياض اتصلت بي وأعربت عن رغبتها في التعاقد معى ولكن حينما عرفت اننى احمل تلك الوثيقة لم يتم هذا التعاقد !! في تلك اللحظة قال لي اعتقد
ان الجامعة التي اعنيها ليس عندها فيتو على وثيقتك واستطرد قائلا اثناء وجودي في المؤتمر الأخير كان من ضمن الحضور عميد كلية التربية بجامعة صنعاء عاصمة اليمن الشمالي وطلب من الحضور ان يرشحوا له دكتور متخصص في تكنولوجيا التعليم لكى يضمه الى هيئة التدريس بكلية التربية بجامعة صنعاء ومن ثم فاذا اردت فانا مستعد ان أتصل بهذا العميد هاتفيا واخبره عنىك وهكذا تم الاتصال وارسلت سيرتي الذاتية مع صور للشهادات المختلفة الى جامعة صنعاء . بعد أيام فوجئت برسالة من تونس من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ألالكسو وهي منظمة مناظرة لليونسكو او ما يطلق عليها اليونسكو العربية وكانت فحوى الرسالة بان المنظمة تعرض على التعاقد معى كخبير منتدب من المنظمة العربية للعمل كاستاذ جامعى في احدى كليات التربية بجامعة صنعاء او العمل بجامعة الخرطوم بالسودان او الجامعة الموريتانية . هنا تذكرت القول القائل اذا ما أُغلق باب فتح الله لك عشرة أبواب بدلا منه وهنا أيضا وقعت في حيرة الاختيار فانا في الواقع لا اعرف عن هذه الجامعات أي شيء يمكننى من الاختيار وثانيا انا لا اعرف كيف دخلت المنظمة العربية على الخط فانا لم اتراسل معها وهنا خطر على ذهنى اسم صديق سوداني هو السيد ميرغنى دفع الله ( علمت انه توفى فرحمة الله عليه) وكان يعمل نائبا لمدير المركز العربي لتكنولوجيا التعليم والذي كان مقره في الكويت وقد تمت معرفته نتيجة اننى كنت انشربعضا من بحوثى في مجلة تكنولوجيا التعليم وهي المجلة العلمية التي كان يصدرها المعهد وتوزع على جميع بلدان الجامعة العربية وهو أيضا سكرتير تحريرها ومن ثم قلت لنفسى لماذا لا اذهب اليه واعرض عليه الامر
وبالفعل ذهبت اليه وعرضت عليه الرسالة فوجدت منه كل تشجيع وترحيب وفي الحال اتصل بتونس حيث المقر الرئيسى للجامعة العربية آنذاك ومن ثم اخبرني بان هذه الوظيفة مقدمة من المنظمة العربية للعلوم والثقافة والتربية اى انها هي التي ستتحمل الراتب وتذاكر السفر وان ذلك سيكون بمثابة منحة من المنظمة العربية التي تتبع الجامعة العربية الى هذه البلدان الثلاث ومن ثم ورغم ترشيح جامعة صنعاء لك للعمل فيها فانه امامك حق الاختيار للعمل بإحدى هذه الدول وحينما يتم ستكمال الإجراءات الرسمية ومن ثم توقيع العقد مع المنظمة سيتم اخبار الجامعة المعنية بذلك وقال انك وبلا شك محظوظ بان تطلبك ثلاث جامعات دفعة واحدة ويكون قرار القبول او الرفض بيديك . بالطبع اسعدنى هذا الكلام وشد من ازرى وقلت للاخ ميرغنى ماهي نصيحتك أي مكان افضل هل هو السودان ام اليمن ام موريتانيا فقال لي يا زول ان لا انصحك بالسودان حيث الان هناك فيضان كبير والاحوال في السودان في الفترة الأخيرة ليست كالسابق بل اكثر صعوبة اما موريتانيا فهى أيضا ليست احسن حالا من السودان بل ربما اصعب بقيت اليمن الشمالى وجامعة صنعاء جامعة أصبحت عريقة وأيضا دولة الكويت تقوم بالتعاون معها ولها ايادي بيضاء مع هذه الجامعة حيث انها تتكفل بدفع رواتب معظم المتعاقدين من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة اما الحياة في اليمن فهى بالقطع ليست كالحياة في الكويت وعلى العموم بامكانك وقبل توقيع العقد ان تقوم بزيارة خاطفة الى اليمن الشمالى وترى الأمور على الطبيعة وبعد ذلك تقرر بنفسك . استحسنت الرأى وعرضت الامر على الدكتور صالح والذي بدوره استحسن الفكرة ومن ثم تم الاتصال مع الأخ عميد كلية التربية بصنعاء واعلامه برغبتى في الحضور الى اليمن لزيارة جامعة صنعاء وقبل توقيع أي عقود ومن جانبه رحب الأخ العميد بحضوري وابلغنى ان الجامعة ستتحمل نفقات الإقامة مع الطعام وكذلك السفريات الداخلية وسيشعر السفارة اليمنية بالكويت ويطلب منها تسهيل مهمتى بالقدوم لليمن . وعليه فحينما ذهبت لسفارة اليمن الشمالى بالكويت وكانت تقع على ما اذكر في منطقة ضاحية السرة وهناك وحينما عرفتهم على نفسى شعرت بالكثير من الاحترام والترحيب وتقابلت مع سعادة السفير في معية القنصل والملحق الثقافي وحصلت على الفيزا في الحال وحجزت تذكرة ذهاب واياب على الخطوط الكويتية والتي تذهب مرة واحدة كل أسبوع الى صنعاء ومن ثم تحددت مدة رحلتى بإسبوع واحد .
سافرت الى اليمن فوصلتها بعد العصر وحينما دخلت صالة القادمين الترانزيت أي صالة القدوم لم اجد هناك ازدحاما او حركة نشطة اذ كانت الصالة خالية تماما وبالتالي لم يوجد بها الا نحن القادمون من الكويت
ونظرت حولى فوجدت عن بعد قليل عددا من المستقبلين يستقبلون بعضا من القادمين ولفت نظرى ان هناك من يحمل يافطة صغيرة كتب عليها اسمى فعرفت على الحال انه ينتظرني فاتجهت اليه وعرفنى على نفسه بانه الدكتور على هود باعباد عميد كلية التربية وانه حضر بنفسه لاستقبالى وبعدها أشار لي بان اذهب الى موظف الهجرة والجمارك والذي كنت لحظتها قد لمحته من الخلف حينما كان يهم بدخول القمرة الزجاجية لاقوم بتقديم جواز سفرى وبالفعل ذهبت اليه وحينما نظرت اليه وجدت ان احد خديه منتفخا ا كثر كثيرا من المعهود مما جعلنى أتصور انه مريض بداء أبو دغيم !! ولكن بعد لحظات قدم شخص اخر الى القمرة وكان بالمثل منفوخ الخد وكانه يضع برتقالة في داخل فمه وفيما بعد عرفت انه "مخزن" أي يختزن ورق القات في فمه واثناء الاختزان يمتص عصير هذه الأوراق وهي أوراق خضراء تشبه أوراق نبات الملوخية الى حد كبير ولكنها بالنسبة لاهل اليمن أوراقا تعطيهم الطاقة والنشاط بعكس ما نظن نحن من انها مواد مخدرة . المهم رحب بي هذا الموظف بادب كبير وقال لى انه سيحتفظ بجواز سفرى معه وعلى استلامه من الجامعة مما اقلقنى جدا واشعرنى بعدم الأمان وحينما ناقشته قال لي كلاما باللهجة الدارجة لم افهم منه الكثير سوى ان هذه هي طريقتهم واجراءاتهم الأمنية مما جعلنى اكظم غيظى وانهى النقاش لاذهب للاخ العميد ومن ثم ناخذ الشنطة الصغيرة والتي وجدته قد اخذها من الجمارك واصر تلطفا منه على حملها . هكذا خرجنا من المطار لنركب سيارة العميد الخاصة واعتقد انها كانت من نوع مازدا متوسطة الحجم وبالطبع اول موضوع تكلمنا فيه موضوع حجز جواز السفر في المطار وان هذه اول مرة تحدث معي في حياتي الطويلة فطمأننى وقال ان هذا اجراء روتينى وان الجامعة ستخبر مدير امن الجامعة العميد العيدروس ليرسل أحدا من مكتبه لاحضار الجواز . والواقع ورغم ذلك كله فقد كنت قلقتا جدا واعترضت على اخذ الجواز لانه ذكرني بحادثة اليمة قاسية تعرضت اليها حينما سافرت الى بريطانيا مع صديق عزيز رحمه الله حيث تم سرقة جوازاتنا من الفندق ومن ثم تعرضنا الى مشاكل كثيرة حتى حصلنا على وثائق مؤقتة لسفرة واحدة تسمح لنا بالعودة الى الدولة التي قدمنا منها وكانت دولة الكويت ومن ثم التقديم للسفارة المصرية في الكويت للحصول على بدل فاقد واستمرت الإجراءات مع المساعى النشطة اكثر من تسعة اشهر حتى حصلت على وثيقة جديدة وقررت عندها الا تفارقنى وثيقة سفرى دقيقة واحدة!!
المهم وبعد ان طمأننى الدكتور على هود على وثيقة سفرى انفرجت اساريري واخذ يعرفنى على نفسه وانه حصل على درجتى الماجستير والدكتوراه من جامعة عين شمس تخصص أصول التربية ثم حدثنى عن جامعة صنعاء وعن كلية التربية وكان في حديثه رقيقا جدا مهذبا جدا وتشعر بمصداقية عالية في كل ما يقوله وقال لى بالتأكيد سوف تسعد جدا بان تعمل معنا في الكلية وفي جامعة صنعاء بالذات وهي اقدم جامعة في اليمن الشمالي حيث هناك جامعة أخرى في البلاد هي جامعة الحديدة وقال لي ان هناك خمسة دكاترة فلسطينين يعملون في نفس الجامعة وكذلك فان الجو في صنعاء دائما معتدل فلا هو حار ولا هو بارد صيفا او شتاء اذ انها تقع على ارتفاع حوالى 2500 متر فوق سطح البحر .
بعد حوالى النصف ساعة وصلنا الى فندق تاج سبأ وهو فندق خمسة نجوم يقع وسط المدينة عند تقاطع شارعى الزبيرى ( احد ثوار اليمنين الابطال) و شارع رئيسى اخر هو شارع على عبد الغنى وللامانة وجدت مبنى الفنق كبيرا وفخما من الخارج ومبنى على الطراز الهندى الحديث حيث الاعمدة الرخامية العالية واشجار المطاط ذات الأوراق العريضة وفي بهو المدخل تجد امامك الفوانيس الكبيرة الملونة مثل فوانيس قصص علاء الدين واسقوف بالمرتفعة العالية والمغطاة من الداخل بزجاج المرايا ومن ثم فانها تعكس لك الانارة وترى الناس يسيرون بالمقلوب . دخلنا الفندق وكانت ادارته هندية أيضا ويلبس بعضهم اللباس الهندي ويعتمر القلنسوة الهندية ويتكلمون الإنجليزية ولكن بلكنة هندية !!
وبعد ان استلمت مفتاح الغرفة وطلب منى احد خدم الفندق وهو يحمل حقيبتى ان رافقته ليدلنى على الغرفة هنا استأذن الأخ العميد منى وقال انه سيذهب لصلاة المغرب وانه سيرسل غدا سيارة لتقلنى للكلية ومن ثم نذهب سويا لمقابلة رئيس الجامعة.
في صباح اليوم التالى استيقظت مبكرا وقد كانت الشمس ساطعة لذيذة والجو دافئ جميل وليس كجو الكويت الحار تناولت الإفطار في مطعم الفندق وقد لاحظت ان هناك الكثير من النزلاء معظمهم من الأجانب والذين جاءوا على ما يبدو كسائحين لليمن .بعد ان انهيت الطعام وكانت الساعة في حدود الثامنة والنصف صباح وقفت على الباب الخارجي للفندق انتظر من سياتي لياخذنى لموعدي مع السيد العميد .
اثناء وقوفي على الباب حيث الشارع الرئيسي لاحظت الكثير من المظاهر التي كانت جديدة على ولم اعهدها في الكويت اذ لاحظت ان نسبة كبيرة جدا من الرجال تلبس الجلباب القصير وتتمنطق بحزام عريض يتدلى منه خنجر يطلقون عليه الجنبية وموضوع هذا الخنجر في غمد معقوف وبعضهم بالإضافة الى ذلك يحمل على كتفه ما يطلق عليه كلاشنكوف وهو سلاح ناري متوسط الحجم او يحمل مسدسا بدلا منه ويسير وبكل هدوء في الشارع ولا يلتفت اليه احد مما يدل على ان هذا المظهر مظهرا طبيعيا في اليمن اما النساء فكلهن تقريبا منقبات يضعن على اجسامهن ما يشبه الروب الأسود الطويل وهو ما كانت تطلق عليه امى اسم الكاب في فلسطين أيام طفولتى ويضعن على روؤسهن قطعة قماش سوداء ما يشبه الطرحة المصرية ولكنها لا تسمح للرائي ان يرى تفاصيل الوجه الشئ الوحيد الذي هو ظاهر من جسم المراة هو الحذاء ولشدة اندهاشى ان جميع الأحذية التي شاهدتها في تللك اللحظة كانت احذية حديثة ذات كعوب عالية مما جعلنى أتساءل كيف لهولاء النساء الكبار في السن اللائي يلبسن الكاب ( حيث انه جرت العادة ان يلبس الكاب بواسطة النسوة الكبار في السن)كيف لهولاء النساء يلبسن الكعب العالي ؟! ولكن فيما بعد عرفت تفسيرا أزال هذا التناقض اذ كانت تلك النسوة شابات صغيرات ولكن لبس تلك الملابس السوداء الفضفاضة وانسدالها عليهن من قمة الراس الى اخمص القدم جعلنى أتصور انهن نساء طاعنات في السن بالطبع عرفت هذا عندما أصبحت اعمل في جامعة صنعاء ومن ثم أصبحت اتعرف على طالباتي في قاعة المحاضرات !!
شيء اخر لفت نظرى في وقفتى العاجلة امام الفندق وهو السيارات التي كانت تجوب الشارع من امامي فقد كانت في معظمها سيارات من نوع الجيب تيوتا او سيارات يطلق عليها ليلى علوى او أبو دبة وهناك بالطبع سيارات الصالون ولكن بنسبة اقل وبعض هذه السيارات لم يكن يحمل أرقاما وبعضا الأخ يجلس فيها اكثر من شخص ومعهم أسلحتهم مثل الكلاشنكوف والمسدسات ولا احد ينظر الى غرابة هذا المنظر فالسلاح هناك هو تقليد قبلى و هناك ضوابط شديدة عليه تحول دون الاستخدام غير المسؤل له .