حدثني أبي ..
كان الفقر والعوز وقلة فرص العمل السمات التي يتميز بها أهل مخيمنا، حالُه في ذلك كحال جميع مخيمات اللجوء الفلسطينية أينما وُجِدتْ. فالمخيم لا يليقُ بحياة البشر، بل إنّه يَنتزعُ منهم صفتهم الإنسانية تماماً كما انتزعَ منهم حريتهم وأمنهم وأمانهم.
وكذا كان مخيمنا، كومةٌ من المنازل البدائية المُقامَة على عجل، بلا نظام، على رقعة ضيقة من الأرض، نوافذها ملاصقة لبعض، وأبوبها مفتوحة على بعض، بداخلها أزقة ملتوية وضيقة تتوسطها قناوات الصرف الصحي المفتوحة. تتكدسُ فيه الناس فوق بعضها فيبدو المخيم منتفخاً كالمعلبات فاقدة الصلاحية. يتشاركُ فيه الناس أبوابهم ونوافذهم وخصوصياتهم كما يتشاركون أفراحهم وأتراحهم.
وغالباً، ما كانت رتابةُ الأيام تزيدُ على قساوة العيش في المخيم، فقد حدثني أبي عن جدي الذي كان يستيقظ كلّ يومٍ قبل الفجر ليذهب إلى سوق الخضار ليُمَوِّن دكانته الصغيرة التي لم تكنْ تكفي لسدّ رمق أولاده الثمانية، حدثني عن سقفِ "الزينكو" الذي كان يطيرُ مع هبوب عواصف الشتاء التي لم تكنْ أكثرَ رأفةً بأهل المخيم من صانعيه. وعن باحة الدار الرملية التي كانت جدتي تحاولُ عبثا تنظيفها بمكنسة " القنو" فيتصاعد الغبار في كلّ مكان، ولا تجد بداً من رش بعض الماء لإخماده، وكأنّها تُخمِدُ معه آلامها وأوجاعها التي تستيقظ معها في كلّ صباح.
حدثني عن مدارس الأونروا، وعن الطقووس الإجبارية لشرب الحليب الممزوج بزيت السمك، كلّ صباح في المدرسة، والتي كانت أشبه بضربٍ من ضروبِ التعذيب، وعن كروت " الطُعْمِة" التي كانت تُصدَرُ لمن يُعانون من سوء التغذية من التلاميذ، أو بالأحرى لأولئك الذين حالفهم الحظ.
غير أنّ هذه الطقوس الروتينية المُعتادة، كان تُخترق في يوم تسليم المؤن التي كانت تُوزعها وكالة الغوث "الأنوروا" على اللاجئين مرتين شهرياً: سكر، شاي، طحين، أرز، سمن، صابون، وفي المواسم: علب لحم أو سردين.
لقد كان يوم المؤن كالعيد في مخيمنا، الجميع مستعدون لاستلامها، يلتقون على ناصية الشارع وهم يحملون أكياساً حاكوها خِصِّيصَاً لهذا اليوم، بانتظار عربة "الجبري" الذي يعتبر مَعلماً من معالم يوم المؤن.
كان " الجبري" رجلاً في أواخر الأربعينات مفتول العضلات وقويّ البنية. يجرُّ وراءه عربة يضع عليها أكياس التموين التي يستلمها أهل المخيم ويوصلهم من سنتر التموين إلى بيوتهم، مقابل مبلغ من المال يشترك في دفعه جميع أهل المخيم. يقومُ " الجبري" بجرِّ العربة المُحمّلة بالأكياس وحده، ويمشي أهل المخيم وراءه وعيونهم على أكياس المُؤن التي تكادُ تسقط في الوحل مرّات عدّة. مُهمتهم مساعدة "الجبري" كلّما غرزتْ عجلات العربة في الأزقة الضيقة المُوحلة.
يمشي أهلُ المخيّم ويستحضرون ذكرياتهم بحُلوها ومُرّها، وكلّها مُعلّقة بالأرض السليبة، يستذكرون بيّارات البرتقال، وكروم العنب، ومواسم قطف الزيتون، وبيادر القمح. يحُنون إلى أيامٍ كان أقصى همومهم ألاّ يتأخر دورُهم في مَعصرة القرية أو أنْ يتمكنوا من إرسال أبنائهم إلى مدارس المدينة. يستذكرون ثم يتنهّدون ويمشون في صمت.
لقد مثّل الجبري الخلاص لأهل المخيم. إذ لم يكنْ وسيلةً توصلُ قوتَ عيالهم إلى برّ الأمان فحسبْ، بلْ كان يُوحّد أهل المخيم تماماً كما وحّدهم قدرهم المشترك. حدثّني أبي كيف عمّ الحزن المخيم عندما تُوفي الجبري فجأة. وكيف تشتّت أهل المخيم بعد وفاته. رحل " الجبري"، ورحلتْ معه طقووس يوم المُؤن، تاركاً أهل المخيم حاملين اكياسهم وواقفين على ناصية الشارع
واليوم، كلّما أتذكر كلام أبي أجد أنّ الوضع لم يتغيّر كثيراً، تماماً كما انتظر أجدادُنا وآباؤنا على طوابير الخبز، ننتظر – نحن – أبناؤهم - اليوم على طوابير الهجرة واللجوء. المشهد ذاته يتكرر والمخرج واحد. وأتساءل أيُعقل أنْ يتشارك الآباء والأبناء المصير ذاته وإنْ اختلف الزمان والمكان. الحقيقة أنّ الفارق الوحيد أنّ أجدادنا وآبائنا كُتِبَتْ عليهم أقدارُهم قصراً أما نحن فقد كَتَبنا أقدارَنا بأيدينا. غيرَ أنّنا لمْ نختلفْ كثيراً عن أهل المًخيم منذ سبعون عاماً، فلا نزالُ، جيلاً بعد جيل، واقفون على ناصيةِ الشارع، ننتظرُ الخلاص.
هند سلامة