سنرجع يوما الى حينا ...!!

لا احد يستطيع ومهما كان ان يمنعنى من ان  حب بلدى او اتغنى بموطنى  ولكن المشكله انه لم يكن لي بلد او وطن!! فانا  ايها القارئ  العزيز ومنذ نعومة اظافرى لم يكن لى وطن لقد كنت نباتا طافيا ينتقل من بلد الى بلد بلا انتماء ولا اختيار عن عمد .. ومن ثم فلم تكن هناك فرصة لاتكلم عن رومانسية هذا الوطن . او ان اتغزل في صفاء جوه  او باخضرار اشجاره او نضرة ازهاره ولا حتى بلون ترابه ,ومع ذلك فهو وطنى الذي بنته احلامي وسكن  اعماق خيال اوهامي  واليه اولا واخير حبى وانتمائى  .

حينما كنت على مشارف السادسة  من عمرى أي في العام 1948 لم اكن افهم ما يدور من حولى .. كنت اسير في الشارع القريب من منزلنا في خانيونس طائرة لا ترتفع كثيرا في السماء ثم ارى وفي ضوء الشمس شيئا يبرق ويتوهج وسط فراغ الهواء  ويسقط شيئا متوهجا  منها  لا اعرف  ما هو ولا اين سقط فارتفاع حائط المبنى حال دون ذلك . بعد دقائق وجدت الناس وقد تجمعت ودخلت بستانا ملحقا بالمبنى  انه بستان احد اقاربي  والمزروع باشجار البرتقال والليمون وبعضا من اشجار الزيتون .. ثم هم يصرخون  مات اخو عزمي واخو عبد الجواد مات ابن ابو حلمى ..  والمرحوم ابو حلمي هو صاحب المنزل الكبير  الذي يتبعه هذا البستان  وهو يمت لي بصفة قرابة من جهة الوالدة ومن ثم كنت اعتبر هذا المكان هو بيت خالى .. لحظات وادخل  البستان مع الداخلين لارى حفرة عميقة قد صنعها ذلك  الشئ المتوهج  انه قنبلة من النوع  التى يسمونها قيزان (برميل متفجر) والتى القيت من الطائرة الاسرائيلية المهاجمة . رايت الحفرة وبها وبجانبها اكثر من شخص كانوا بلا حراك  حوالى عشرة اشخاص  بعضهم كان ممدا على الارض تحت شجرة الزيتون والتى انكسر غصن منها  وسقط الى جانبه , وكأنه يقول انا السلام لقد اسقطني هؤلاء اليهود  لاذهب الى القبر معك!! . بعضهم كان ممدا على ظهره وفاغرا فاه وجاحظا بعينيه نحو الناس  وكأنه يسألهم لماذا قتلنى هؤلاء القتله ؟ بعضا اخر انقلب على وجهه وقد وقع عقاله وتعفر جسمه بالتراب المتكتل والمبلل بالماء  بعضا اخر ممدا على جانبه ويسيل من راسه وفمه قطرات من الدماء سالت حتى وصلت الى وسط ملابسه .. لم اتصور انهم موتى  وسط كل هؤلاء وجدت واحدا يلبس الملابس الاوروبية اي جاكتة زرقاء داكنة  وبنطالا طويلا وعليه سمات الاناقة  قالوا هذا ابن  أبو حلمي اما   الباقي  فقد كانوا شبابا من المهاجرين الذين يخدمون البستان ..  انظر اليه فاجد انه لا يضحك  رغم انه  كان فاتحا فاه باتسامة رضا  ولسان حاله يقول ما اجمل الموت على ترابك يا وطنى!!  اسنانه بيضاء ولكن  ملابسه تبرقشت بتراب طينى داكن  وكفه مملوء بحفنة من تراب مختلطة باوراق خضراء  من شجرة الزيتون  شجر السلام !!  .. ثلاثة من الحضور ذهبوا واحضروا بطانيات ومفارش  الاخرون مددوا الرجال في صف واحد  وجعلوا وجوههم تتجه الى نفس الجهة التى يولى والدى وجهه اليها كلما اراد الصلاة .. قام الحضور بلف الاجسام بالبطانيات والمفارش ثم حملوهم .. انا في ذهول مما رايت  .. انا لم اصدق انهم موتى  انا لم  اكن اعرف الموت قبلا بمعناه الفيزيقى  انا اسال نفسى لماذا يغطونهم ولماذا صلا يحملونهم هكذا لماذا لا يحضرون لهم الماء  ويقوم هؤلاء االممدون على الارض ليغسلوا وجهوهم  ومن ثم ينفضون التراب عن ملابسهم  ومن ثم يستانفون ما كانوا يعملون ؟!!

خرجت من البستان وانا عائد للمنزل  خطرت في بالى الكثير من الاسئلة  مالذي حدث بالضبط  هل تنتهى الحياة بمثل هذه السرعة  بهذه السهولة  ولماذا يموت او يقتل هؤلاء  ماذا فعلوا لكي يموتوا رغما عن ارادتهم .. ولماذا تاتى طائرة مغيرة وترميهم بذلك القيزان اللعين  هم لم يتشاجروا مع قائدي تلك الطائرة  .الكل  يقول اليهود قتلوا الشباب  انا لا اعرف السبب  انا سمعت من والدي ان كان له من قبل ان اولد  انا صديقا يهوديا ياتي من الخليل ليزور والدي وكان ابى يحتفى به ويعمل له مقلوبة  ذلك الطعام المصنوع من الارز والباذنجان وبداخله اللحم بسخاء , ويقول ان شمعون وهذا اسم اليهودي يحبها وابى يتذكر ان شمعون  كان دائما يقول لابي خبيبي (بالخاء وليست الحاء) ويحضرله معه سحارة ( صندوق خشبى  صغير يستخدمه المزارعون في نقل منتوجاتهم الزراعية من الخضروات او الفواكهة) من عناقيد العنب الخليلى كبير الحبة سكرى العصير  .ابي كان يقول لا فرق في الاديان طالما كان الكل محترما ويحافظ على مشاعر الاخرين واننا جميعا ننتمى الى وطن واحد هو فلسطين  فهى الأرض المقدسة التي تأوينا جميعا , هكذا كان يقول ابيوهكذا كان كل اهل فلسطين  انهم طيبون متسامحون !!

 

وبينما كنت لازلت اسير نحو المنزل تذكرت ان ملابس الممدين لم تكن  مكونة من قميص اخضر  وبنطال اخضر (خاكي) كالذين هم موجودون في المدرسة الكبيرة المجاورة لمنزلنا تلك المدرسة  التى اصبح الاولاد لا يذهبون اليها . كان عدد هولاء الاشخاص خضر الملابس كثير كثير,  وكثيرا ما كنا نراهم نحن الاطفال يقفون صفا مستقيما  طويلا ويحمل كل منهم ماسورة حديدية تنهي بكعب خشبى يقولون عنها طبنجة او بندقية  ثم يتحرك هذا الصف وبخطوة سريعة يطوفون ملعب المدرسة وسط هتافات لا اعرف معناها وتضرب اقدامهم في الارض في لحظة واحدة ويقولون كلهم وفي ان واحد  كلمةواحدة  هي  "تمام يا فندم "!!

في حالات اخرى كنت ارى بعضا من هؤلاء الجيران خضر الملابس  وقد اسماهم ابى جنود الملك فاروق المصري اراهم وهم يسيرون خلف صندوق طويل لف بعلم المملكة  المصرية الاخضر وبه الهلال ويقال انهم وضعوا شهيدا داخل هذا الصندوق .. هنا اجد الرجال صامتون ووجوههم حزينة  واجد الرجال من الجيران ومعهم ابي  يلتحقون بالموكب ويسيرون خلف جنود الملك فاروق وهم يقولون الله واكبر والى جنة الخلد يا شهيد

 

هكذا اذن كانت طفولتى   فانا لم اعرف الطفولة التى تتحدث عنها طائفة اخرى من الاطفال  طفولة المرح والفرح  طفولة الالعاب وشراء الملابس الجديدة  طفولة الامن والامان .انا عرفت طفولة الخوف والاحزان ..

حينما وصلت المنزل وجدت نفسى اعود حزينا واجما وحينما رجعت ووجدت امي كانت على الباب قلقة تنتظرني بعدما بحثت عنى في الشارع وسألت الصغار عنى وبادرتنى " ولك وين كنت يا ابو رجل دايرة؟" قصصت لها ما رايت  تنهدت وقالت لي وبلهجة حاسمة اجلس هنا ولا تتحرك نحن في حرب مع اليهود الغرباء جاؤوا من اوروبا ليأخذوا بلادنا  بالطبع لم افهم

  بعد لحظات جاء الوالد ومعه حمارين هو يركب احدهما وقال للوالدة منطقتنا وبسبب وجود الجنود المصريين لم تعد امنة ولذلك جهزي نفسك  لنذهب الى حاكورة دعبس  الاسطل ( الحاكورة قطعة ارض زراعية  كبيرة نسبياوتقاس بالدونم والدونم 1000 متر مربع ) واردف الحاج  دعبس الاسطل اخلى لنا احد الخصوص (جمع خص وهو خيمة مصنوعة من ورق او اغصان  النخيل بدلا من القماش او المشمع  وتغطى قمته المثلثة بالطين)  .

 بدات والدتي في وضع بعضا من الانية والفراش على ظهر الحمار ووضعت شيئا من الطعام في سرج الحمار (شئ أشبه بالشنطة تعلق على ظهر الحمار وتتدلى على جانبى ظهره) اما والدي فقد حرص على وضع جهاز راديو كبير الحجم نسبيا كان من نوع Pilot  ويعمل على البطارية السائلة مثل بطارية السيارة اقول وضع  ذلك الجهاز وقد كان هذا الجهاز  معجزة ذلك الوقت حيث كان يتكلم وبدون وجود انسان داخله , بعد ان تم وضع الراديو والبطارية على سرج الحمار الثاني 

المهم سارت بنا الحمير ونحن نتبعها وكنا لسنا اسعد حالا منها فهى مثقلة باثقال الحمال من طناجر وصحون  ونحن نسير ورائها مثقلون بالافكار والهموم .

في الطريق قالت امي وبصوت كسير :متى سنرجع  الى منزلنا ؟ رد ابي بكل ثقة ان شاء الله سنرجع الى حينا بعد يومين او ثلاثة بالكثير ..

دارت عجلة الزمن وتوالت العقود  بعشرات السنين ومات ابي  وماتت امي رحمهما الله  ولكن للان لم تنقضى فترة اليومين او الثلاثة  ومع كل هذا اجد نفسى اردد قول  ما قالته  فيروز على لسان شاعر النكبة هارون هاشم رشيد (حسبما تقول اغلب المصادر ) سنرجع يوما الى حينا  ...سنرجع مهما يمر الزمان ..... وتنأى المسافات بيننا !!

د. عبد الله عمر الفرا

شارك مع أصدقائك
  • gplus
  • pinterest

أخر الأخبار

لا يوجد أخبار

أحدث التعليقات

    لا يوجد تعليقات

أترك تعليقاً