في مثل هذا الشهر ومنذ 32 عاما أي في شهر يونيو من عام 1967  ألمت بالعرب نكبة كبرى كانت عميقة الأثر مثل  نكبة فلسطين والتي حدثت في العام 1948   ومع ذلك وتقليلا من قدر هذا الحدث المزلزل فلقد اطلقوا عليه اسم النكسة او الوكسة كما يحلو  لبعض العرب التندر عليه.

كان بودي ان اكتب عن هذا الحدث الجلل والذى كان من نتيجته احتلال كل سيناء وكل قطاع غزة وهضبة الجولان والقدس الشرقية.والضفة الغربية لنهر الأردن . للأسف لا استطيع ان أكون شاهد عيان لاكتب ما شاهدته بام عيناي من قصص حزينة وذل للإنسان العربي عامة والفلسطينى خاصة  ولكن استطيع ان اتحدث عما شاهدته عيناي من حدث مماثل وان كان اقل كثيرا من حدث النكسة  ولكن القاسم المشترك بين هذين الحدثين هو قاسم واحد  انها الحرب المدمرة .. انها الاحتلال الاسرائيلى لقطاع غزة المجرد من السلاح  انه القتل للمدنيين العزل الأبرياء ..ما انقله هو ذكريات محفورة في عقلى  .. 

كنت في مرحلة الصبا ما بين الطفولة والشباب وبالتحديد في  حوالى السنة الرابعة عشرة من عمري .. كان الجو خريفا  وبالتحديد في الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر من عام 1956 .. كان الجو في صباح ذلك اليوم في مدينتي خانيونس صحوا بسماء مشرقة وشمس ساطعة .. ذهبت صباح ذلك اليوم وقد كنت اكبر اخوتي الذكور أعيش مع والدتى واخواتى الثلاثة واخوتى الاثنين .. كان المطلوب منى وكل يوم تقريبا الذهاب للسوق لشراء ما يلزم من أغراض منزلية وخاصة أمور الطعام اليومي اذ لم نكن في ذلك الوقت نمتلك ثلاجة لحفظ الطعام إذ لم تكن الثلاجات شائعة في قطاع غزة بعد  .

هكذا اذن حملت سلة مصنوعة من اعواد الخيزران نستخدمها كحاوية صغيرة لوضع مشترياتنا  اذ لم تكن الاكياس او الشنط البلاستيكية قد اخترعت بعد .  المهم علقت السلة في كوع يدى واثناء قيامي بالشراء لاحظت ان هناك ما يشبه برميلا لامعا في السماء يسقط من طائرة على ارتفاع بسيط .. وبعد ذلك اسمع صوت دوي انفجار شديد رغم اننى لا اعرف أي سقط هذا البرميل او القيزان كما يطلقون عليه  .. بالطبع اضطرب الناس وهربوا مهرولين  مذعورين الى كل مكان

اخذت اجرى نحو منزلنا والذي كان قريبا من السوق .. بالطبع وفي ذلك السن كنت اعرف ان إسرائيل  وفي العام 1948 كانت قد احتلت الغالبية العظمى  من فلسطين والتي كانت سابقا تحت الانتداب البريطاني ومن ثم سببت هجرة  اهالى تلك المناطق ونزوحهم الى مختلف المناطق والمدن الفلسطينية الأخرى  بل والبلاد العربية المجاورة ومن هنا فها هي حرب جديدة تحط اوزارها ولكن ليس من قبل إسرائيل لوحدها بل يتشارك معها دولتان عظيمتان هما بريطانيا وفرنسا  وسميت هذه الحرب باسم العدوان الثلاثي حيث تم هذا العدوان وكما قيل ايامها ردا على تاميم الرئيس المصري جمال عبد الناصر لقناة السويس في 26 يوليو عام 1956  ليحولها من شركة مساهمة دولية الى شركة مصرية .. ومما زاد في غضب الدولتان بريطانيا وفرنسا أيضا هو تعاقد مصر مع الاتحاد السوفيتى على صفقة من الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا   وذلك بعدما رفض الغرب تمويل بناء السد العالى  وكذلك توريد أسلحة غربية لمصر .

وصلت المنزل وقد فقدت السلة وبما حوت والذعر لتستقبلنى امي رحمها الله عند باب المنزل وقد تملكها الهلع  .. بعد لحظات سمعنا المزيد من سقوط القنابل من الطائرات في كل مكان بما فيها بعض المنازل  .. قررت الوالدة ان نترك منزلنا داخل المدينة ونذهب الى خارجها حيث معسكرات الللاجئين وهي بيوت متواضعة جدا بنيت على الكثبان الرملية خارج محيط مدينتى مدينة خانيونس وحيث كانت تسكن اختى الكبرى  الغالية صبحية رحمها الله  .. استقبلتنا الأخت صبحية بكل لهفة وشوق واخذت تهدئ من روعنا وقد راعها ما شاهدته من شحوب وجوهنا وقساوة ملامحها ومن فورها اعدت لنا بعضا من الشاي على وابور الكاز المتواضع  .

بدأ الظلام يلف المنطقة ولا يقطعه إلا أصوات طلقات على شكل زخات  ثم يهدأ الصوت ليعود من جديد  ثم بدأنا نسمع أصوات قنابل يرتج لها حوائط البيت المتواضع والبيوت المجاورة . وتحلقنا نحو لمبة الكاز التي كانت تحرق فتيلتها لتنير لنا المكان بضوء ضعيف خافت يجعلك تتعرف على ما امامك من أشياء بصعوبة تكاد ان تكون بالغة .  بالطبع كنا نسمع ما يقوله الجيران وهم يتحدثون عما يحدث في المدينة حيث قالوا ان الجيش الاسرائيلى  حاول دخول المدينة من الناحية الشرقية أي من جهة عبسان الكبيرة وعبسان الصغيرة وبنى سهيلا ولكن رد على اعقابه بعدما تكبد عددا كبيرا من القتلى  ثم حاول دخول المدينة من الناحية الجنوبية أي من منطقة ال الشاعر وال زعرب  أي من ناحية رفح  والتي أصبحت محتلة من قبله ولكنه أيضا لم يستطع وانه الان يحاول الدخول من الناحية الشمالية أي من منطقة دير البلح وغزة حيث انه قد تم اخضاعهما لسيطرته  أي انه تقريبا احتل جميع مدن قطاع غزة إلا مدينة خانيونس حيث بقيت صامدة في وجهه  تصد هجومه الشرس بحفنة من الفدائيين والجيش المصرى الذي حوصر ولم يستطعوا الانسحاب في الوقت المناسب   يضاف لهم عددا من شباب المدينة الغيورين هكذا كان  الناس يقولون .

في صباح اليوم الثالث  سكت الأصوات وانقطع صوت القنابل وأصبحت الطائرات تحلق فوف المدينة وتخبر الناس بانه تم تقليص أوقات عدم التجول ليصبح التجول في المدينة مسموحا لحوالي ثلاث ساعات في اليوم الكامل .

هنا قررت امي ان نعود لمنزلنا  لتفقده فلقد سمعنا ان هناك بعض المنازل التي نسفها الجيش الاسرائيلى   وان قسما اخر منها قد تم نهبه ..الخ ومما دعم قرار الوالدة بالعودة   ان زوج اختى الصهرمحمد السقا  أبو محمود قد عاد لتوه من القرارة حيث احتجز هناك وقت  حدوث العدوان

خرجنا من منزل الأخت صبحية وسط رفضها الشديد ولكننا وعدناها باننا سنتخذ كل الحيطة والحذر  .. بعد حوالى نصف كيلو من منزل الأخت وجدنا عددا من الجثث وجوههم الى الأرض واجسامهم ممدة عليها  والذباب ورغم ان الجو لم يكن حارا كان يعف على تلك الجثث الممددة . تقدمنا نحو المدينة  فوصلنا قلعة برقوق او القلعة كما يطلق عليها وهي تقريبا وسط المدينة فشاهدنا منظرا مرعبا .. مالايقل عن عشرين جثة  كلها بلباس مدني غير عسكري  مثل الجثث التي شاهدناها سابقا ملقاه على اسفلت الشارع بجانب احد الحوائط الخارجية للقلعة  وحولهم مستنقع من الدماء المتجلطة الجافة  كانت بنية داكنة تميل للون الأسود  على الحائط توجد أيضا بقع دماء وكتل بيضاء لاصقة بالجدار قالت امي انه جزء من مخ من قتلوا باطلاق الرصاص على رؤوسهم من الشهداء .

بالقرب من القلعة كانت هناك ساحة كبيرة نسبيا بنى على احد أطرافها  عمارة عالية تسمى عمارة أبو دقة  في تلك الساحة وجدنا عددا من القتلى  وقد عرفت فيما بعد وحسب الشهود ان هذه الجثث تعود لبعض العسكريين والمدنيين الذي كانوا يقتنصون الجنود الاسرائيلين من سطوح هذه العمارة وان الاسرائيلين صعدوا لسطح العمارة والقوا بهؤلاء المقاومين من فوق سطح العمارة لتهوى أجسادهم على الأرض  من الدور الرابع ومن ثم يموتون وأيضا  وبعد ذلك أي بعد موتهم يطلق الرصاص على أجسادهم اشفاء لغليل الإسرائيليين وثمنا لمقاومة هؤلاء الشهداء اثناء توغل الدبابات .

تركنا هول ما نرى ومضينا في طريقنا الى المنزل وقد اصبحنا على اول الشارع المؤدي اليه حيث وجدنا مجموعة من جثث الرجال  المدنيين ملقاة على مدخل هذا الشارع ولفت نظري ان تعرفت على احدهم حيث كان جارا لنا  وما ان اقتربت من الجثة لأتيقن من ذلك حتى وفي سرعة خاطفة وجدت جيبا عسكريا يقترب منى  ثم ترجل منه احد العسكر وبالطبع  كان يحمل كامل سلاحه  وهو ينظر الى في ريبة وكنت وقتها البس البنطال القصير كما كان الصبيان يلبسون في ذلك الوقت   أقول بدأ ذلك العسكري في الاقتراب منى وهنا امسكت امي بيدى وشدتنى بعنف لطرفها وكان من الممكن ان تكون نهاية حياتي في تلك اللحظة لولا ان الله قيض ان يجعل العساكر التي كانت في الجيب تخاطب هذا الجندي فيتركنى ويذهب  مهرولا ليركب الجيب ومن ثم يتحرك الجيب بعيدا عنا  نحو شارع جلال .

بعد بضعة خطوات وجدنا سيارة عسكرية إسرائيلية مدمرة قيل لنا ان الشبان الذين شاهدنا جثثهم عند مدخل الشارع هم من دمروا هذه السيارة المدمرة.

بعد دقائق خلناها دهرا وصلنا لمنزلنا  لنجد ان هناك الكثير من المواد الغذائية قد سرق وأيضا بعضا من ملابسنا وترك لنا في المنزل بعض الملابس العسكرية والتي قامت امي في الحال بتقطيعها بالمقص ودفنها تحت شجرة رمان موجودة في فناء ركن من اركان المنزل .

بعدما وصلنا بساعة تقريبا سمعنا  صوتا عبر مكبر الصوت يطلب من جميع الذكورالتجمع في ساحة  أبو النجا القريبة من جامع السنية القريب من منزلنا وعدم التخلف لاي سبب  .. امى قالت لي لا تذهب وخبأتني في مخزن ضيق وطويل ملتصق بجدار احد غرف المنزل ولا يكتشفه إلا من يعرف المنزل تماما  ونطلق عليه اسم ياخورونستخدمه كمخزن مهمل , وقالت لى لا تتحرك وسوف نحضر لك الطعام وساغلق عليك الباب من الخارج واضع عليه بعض الفراش للتمويه .

استمرت حياة الرعب والهلع وتصفية الرجال ومنع التجول (وان كان يتناقص تدريجيا ولكنه لم ينته) الى ان استيقظنا صباح احد الأيام لنكتشف  انسحاب الجيش الاسرائيلى من قطاع غزة يوم 7 ابريل 1957   حيث عرف بيوم النصر وتم الانسحاب نتيجة للإنذار الروسى وطلب الرئيس الامريكى ايزنهاور من المعتدين الانسحاب .. وهكذا طويت صفحة هذا العدوان  الظالم وان ظلت  ذكراه ماثلة في أعماقى للوقت الحالي .. اننى أتساءل من الذي ينسى الفلسطنيين ومن جميع الأجيال الظلم الذي وقع عليهم  ومن دون ان يسببوا اذى لاحد سوى انهم يدافعون عن وطنهم الذي احبهم واحبوه !! والسؤال الذى يجب ان يطرحه العالم المتحضر  على نفسه اقصد ضميره : اهل تستطيع مليارات العالم كلها ان تنسى الفلسطيني وطنه ؟

 

شارك مع أصدقائك
  • gplus
  • pinterest

أخر الأخبار

لا يوجد أخبار

أحدث التعليقات

  1. حميد
    2019-07-03

    المقالة جيدة والأسلوب يشد الانتباه والموضوع أيضا معالج بطريقة تجعل القارئ يتصور الحدث وبطريقة غير مباشرة يجعله اكثر أي الفلسطيني اكثر حنينا لوطنه ولا يقبل بالتنازل عنه بمليارات العالم كله

أترك تعليقاً