مع نشأة الكنيسة الأولى في القدس ( اورسالم الكنعانية العربية )، حملوا رسالة السلام والإنسانية إلى باقي الوطن الفلسطيني، من ثم إلى سوريا، ومنها إلى العالم شرقا وغربا، إلى روما، وأنطاكية شمالا، وصولا إلى الجزيرة العربية و الهند، والصين، وإلى أقصى بقاع الأرض.

كانت البداية في فلسطين، في القدس، ورغم الإضطهاد الشديد الذي تعرضوا له في القرون الثلاثة الأولى ، خصوصا في سوريا ومصر، إلا أن رسالتهم تجاوزت الوثنية والإستبداد الروماني، وعبرت الآفاق، لتحمل للعالم رسالة سامية، كانت في زمانها من أسمى ما وصل للفكر الإنساني من مضامين، وكان لها أكبر الأثر في نهضة وتمدن شعوب وقارات بأكملها، وأستطاعت روح هذه الرسالة، أن تُحدث تغييرات عميقة في بنية وثقافة الكثير من المجتمعات. أخرجتهم من البربرية والتخلف والوحشية.

وقدمت هذه الرسالة للإنسانية مساهمات بالغة الأهمية ، يمكن تتبعها في جميع مجالات الحياة العلمية والفكرية والفلسفية والإقتصادية والسياسية،وفي صياغة القوانين والتشريعات والعقود الإجتماعية، التي قامت على أساسها دول حديثة. وتركت روح المسيحية بصماتها على الأدب والفنون والعمران ومختلف نواحي الحياة.

من فلسطين العربية ، سطعت شمس المسيحية لُتشرق على العالم بأسره، وهي جزء أصيل من إرث منطقتنا ، من تاريخنا، من كياننا العربي. ليست بالبضاعة المستوردة أو الغريبة.

إمتدت بين البدو في الصحراء عن طريق الرهبان والُنُساك، وإنتشرت بين القبائل العربية في معظم أنحاء الجزيرة العربية( غسان ، تنوخ، شيبان، تغلب، بكر، جذام، وغيرها) ، وفي اليمن. وكان لها ممالك عربية أصيلة تدين بها كمملكة الحيرة في العراق ومملكة الغساسنة في سوريا الطبيعية.

على مدار تاريخ المنطقة ، لعب المسيحيون العرب دورا بارزا في جميع مجالات الحياة، كان منهم الرواد في مجال العلوم والفلسفة والأدب والترجمة والحفاظ على اللغة العربية، نشروا المدارس والمعاهد العلمية في كل مكان،وساهموا في إثراء الحياة الثقافية ، وساهموا في اللاهوت الدفاعي، في الصناعة والتجارة والإعلام.

منهم رواد الفكر القومي، شركاء الكفاح من أجل الإستقلال والحرية، من أجل النهضة العربية. شركاء الوطن الواحد من أجل التخلص من الإحتلال، شركاء المعاناة، كجزء أصيل من الحركات الوطنية في أماكن تواجدهم.

بالرغم من كل الأزمات والحروب وإنعدام الإستقرار، التي يعاني منها عالمنا العربي، وهجرة الكثيرين إلى شتى بقاع الأرض، إلا أن حضورمن تبقى منهم ، أهم ما تمتلكه منطقتنا من حجارة حية، شواهد على جذورها التاريخية، يجب الحفاظ عليها، وتوفير مناخات أفضل لوقف هجرة ما تبقى منهم.

من يوقف عملية الإستنزاف التي نقرأ عنها في الإحصائيات والتي يعاني منها العالم العربي، وخصوصا في السنوات الأخيرة؟. من يتواصل معهم في منافيهم في أمريكا الشمالية والجنوبية وفي أوروبا الغربية؟. أم أصبحوا طي النسيان كباقي الجاليات العربية في المغتربات وغالبيتها العُظمى من الأطفال والشباب؟.

على الصعيد الفلسطيني، من الواجب الإنتباه وبشكل جدي ، لأهمية دعم وجود وبقاء هذا المكون الأصيل، من مكونات شعبنا، دعم صموده، وتفهم مشاكله وهمومه الحياتية، وتطوير آليات رسمية حكومية وشعبية واضحة، لتقديم كل الدعم والتواصل الدائم معه وفتح جميع المجالات له ليُعبر عن ذاته وشخصيته ووجوده وعلى كافة المستويات.

يجب الإهتمام بالأرث التاريخي للمسيحية في فلسطين والعالم العربي، بتراثها الفكري والحضاري، وتتبع تاثيرها وإسهامتها في الحضارة الأنسانية. لماذا نخسر موروثنا الحضاري، وعلينا الرجوع للمصادر اليونانية واللاتينية لنتعرف على ذاتنا؟.

كم كتابا أنتجنا أو فلما وثائقيا أو دراسة أو ندوة حول هذا التراث؟ هلى يعرف طلاب مدارسنا شيئا عنه؟ لنقول لهم على الأقل هذا تراث أجدادكم؟ إلى أي مدى نجحنا في إستخدام هذا التراث عالميا للتعريف بقضيتنا ومخاطبة العالم؟ هل يليق أن نتكفي بمجرد نشرة سياحية فقط؟.

عند الفتح الإسلامي بلاد الشام، تنفس السريان الصعداء، وكتبوا في إحدى وثائقهم: لقد تخلصنا من البيزنطيين الظلمة وجاء الإسلام العادل .أين هو تراث السريان؟.

من الأزمات التي يعانيها المشروع الصهيوني في فلسطين ، أنه يقدم نفسه ككيان قومي ديني، دولة تستثني في تعريفها لنفسها، باقي مكونات سكان فلسطين من المسلمين والمسيحيين والدروز، وتقدم نفسها على أنها ديمقراطية فريدة، مع أن جوهرها عُنصري فوقي ، خرجت من حضن الكولونيالية، وتتصارع مكوناتها ، علمانيتها مع أصوليتها. وعقدتها التاريخية :

ثقافة الجيتو الإنعزالية والإنفصال عن الآخر والإنغلاق على الذات ، والنظرة إلى جوييم الأغيار أو الغرباء أو الأجانب، نظرة إستعلائية. ويتلاعبون بمفهوم الأمة المختارة أو الإختيار ، لتبرير عنصريتهم.

من يراجع موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية باللغة العربية ، سيقرأ كيف يكتبون عن ديمقراطيتهم المتجذرة عبر التاريخ ، يتحدثون عن الماضي السحيق لثقافة الديمقراطية ، وصولا إلى هرتزل، الديمقراطي الأول!، صاحب مشروع التطهير العرقي ضد شعب فلسطين، حتى تاريخهم يزيفونه.

ولكننا في فلسطين، نريد أن تكون الروابط التي تجمع كل مكونات هذا الشعب ، أساسها أخوة الأرض والتاريخ والإنسانية والمصالح المشتركة، أخوة المساواة في الحقوق والواجبات والمواطنة.

إن عدالة قضية فلسطين تقوم على أبعادها الوطنية والقومية والأممية، على عُمقها الإسلامي والمسيحي والإنساني!

شراكتنا في الحلم الفلسطيني، في المعاناة الطوياة ، تفرض علينا الوعي أن فلسطين وطن الجميع ، ويتسع للجميع، وبنيته تاريخيا تقوم على تعدديته. نحن أولى بتراث أمتنا المسيحي، الذي تتم سرقته وبقدم للعالم على أنه تراث دولة الإحتلال في المحافل الدولية.

هل الحُمص والفلافل والمجدرة أهم من كل هذا التاريخ؟ أهم من الآثار والوثائق المسروقة ؟ أهم من إرشيف فلسطين المسروق؟. مع أننا يجب أن نتمسك حتى ولو بحبة عدس أو خردل إذا كانت عربية فلسطينية.

نتباكى في أدبياتنا السياسية على إختراق الصهيونية لبعض التيارات المسيحية ، والتي أصبحت من روافد الدعم الرئيسة لدولة الإحتلال، ولكن ماذا فعلنا بالمقابل- كعرب- طوال السنوات الماضية لتعديل الكفة؟ لا شيء.  راي اليوم

 

شارك مع أصدقائك
  • gplus
  • pinterest

أخر الأخبار

لا يوجد أخبار

أحدث التعليقات

    لا يوجد تعليقات

أترك تعليقاً