منذ سنة 2016 إلي حد الآن مازال مأزق البريكست الإقتصادي يشكل حدث الساعة و مازال أيضا مصيره مستقبليا علي حاله و لا جديد يذكر في ذلك السياق بحيث تبقي تلك المفاوضات الداخلية في البرلمان البريطاني مجرد عمليات كر و فر و تلاعب بالألفاظ لا أكثر و لا أقل. فمن المعروف أنه من مجمل 28 دولة عضو بالإتحاد الأوروبي كل دولة لها الحق الشرعي وفقا للمادة 50 من معاهدة لشبونة بالإنسحاب الفوري بدون الإلتزام بشروط مسبقة تذكر من ذلك الفضاء المتكتل في كتلة واحدة داخل القارة الأوروبية. أما في المقابل فيعتبر إنضمام المملكة المتحدة البريطانية إلي الفضاء الأوروبي هو عبارة عن مجرد تكتل في فضاء جمركي موحد و في سياسة مالية مشتركة بحيث لا تعتمد عملة اليورو كعملة محلية و لا تعتمد سياسة نقدية موحدة. فالدول التي تستعمل عملة اليورو كعملة موحدة عددها 19 دولة أوروبية متكتلة في سياسة نقدية موحدة التي يسيرها البنك المركزي الأوروبي بفرنكفورت ألمانيا بحيث تتدخل تلك السياسة مباشرة في الشؤون الإقتصادية الكلية و الجزئيات البسيطة في المنظومة المالية و البنكية. فإجمالا لا يشكل اليوم إنضمام بريطانيا للإتحاد الأوروبي إقتصاديا أهمية كبري نظرا لعدم إلزامه بتنفيذ تلك السياسات الإقتصادية مما يجعل من ذلك الإتفاق المسمي بالبريكست أو بالأحري "خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي" عقيما في محتواه و في أهدافه الإستراتيجية. إذ يعتبر ذلك التهويل الإعلامي و الصحفي حدث سياسي مبالغ فيه و وقع تضخيمه داخليا مما سالت لتغطية حدثه كميات كبري من الحبر لا تستحق كثيرا من أجله بحيث يعتبر في جوهره الإقتصادي مجرد زوبعة في فنجان فارغ. فللتوضيح تعتبر بريطانيا إقتصاديا ملزمة بتنفيذ السياسة المالية و الجمركية الموحدة فقط و غير مجبرة علي تنفيذ السياسة النقدية بحيث لا تعتمد عملة اليورو و غيرها من التفاصيل الدقيقة كالإحتياطي المركزي و تطبيق منظومة مالية و نقدية شاملة. فتغير الحكومة البريطانية من تيريزا ماي إلي بوريس جونسون لم يغير من جوهر الموضوع كثيرا بحيث مازال الإنسحاب قائما و مؤكدا مهما كان إختلاف عنوان الموضوع. ففي هذا السياق لم تختلف الأمور كثيرا في مداولات إتفاق البريكست سابقا و العودة له مجددا داخل البرلمان البريطاني بحيث بقيت دار لقمان علي حالها. أما بخصوص التلاعب بالمصطلحات السياسية لا تشكل في حد ذاتها حدث سياسي أو إقتصادي مما سرعت من عملية إسقاط حكومة تريزا ماي خلال منتصف سنة 2019 ثم إلي إسقاط الشرعية عن حكومة بوريس جونسون خلال هذا الشهر من سبتمبر 2019 و البقاء في نفس دوامة الفنجان الفارغ "الخروج عبر التصويت من قبول أو رفض إتفاق البريكست". بالنتيجة أصبحت تلوح في الأفق بوادر للإتجاه نحو إنتخابات عامة مبكرة و اللجوء إلي صوت المواطن البريطاني من اجل تقرير المصير "إما البقاء أو الخروج النهائي". لكن تبقي أقرب السيناريوهات مهما كانت نتائج الإنتخابات المرتقبة في حالة تمسك البرلمان البريطاني بحجب الثقة عن حكومة جونسون التي تعتبر "متوفية كلينكيا" قبل بداية إشتغالها هي مباشرة الخروج من الإتحاد الأوروبي عبر الطلاق بالتراضي. أما في المقابل فالتأثيرات المستقبلية علي الأوضاع الإقتصادية البريطانية لن تكون نتائجها ذات أضرار كبيرة وفقا لرؤى خبراء الإقتصاد نظرا لقوة عملة "الجنيه الإسترليني" مقابل سلة العملات الأجنبية خاصة منها "اليورو و الدولار" في الأسواق المالية العالمية. فالإندماج في الفضاء الأوروبي لم يكن كليا منذ توقيع بريطانيا علي تلك إتفاقية الإنضمام بحيث إقتصرت فقط علي التمتع بإمتيازات المبادلات التجارية وفقا للسياسة الجمركية الموحدة و المعاملات المالية المشتركة عبر السياسة المالية الموحدة بحيث تم إستثناء أهم عنصر إقتصادي و هي السياسة النقدية المشتركة.
الطلاق بالتراضي
علي الرغم من تصويت مجلس اللوردات البريطاني علي قانون "يمنع الخروج بدون إتفاق", و توقيع الملكة إليزابيث عليه و تعليق عمل البرلمان لمدة خمسة أسابيع و التي لم تشهد أحداثه المملكة المتحدة منذ قرابة أربعين سنة و السعي إلي تأجيل البريكست من 31 أكتوبر 2019 إلي ما بعد ثلاثة أشهر إضافية. فإن بوادر عملية الطلاق بالتراضي أصبحت تلوح في الأفق و هي تعتبر أقرب سيناريو للتنفيذ علي أرض الميدان نظرا لتشبث برلمان الإتحاد الأوروبي ببنود الإتفاق الذي أبرم في فترة حكومة تيريزا ماي بحيث أصبحت مبادرة رئيس الحكومة الجديد بوريس جونسون مجرد تجميل لذلك الإتفاق السابق الذي لم يختلف محتواه مجددا بل يعتبر هو نفسه بحيث وقع إعادة دعوة البرلمان مجددا من أجل التصويت عليه و تمريره للدخول حيز التنفيذ عمليا. كما أن تقديم رئيس البرلمان البريطاني جون بيركو إستقالته لم يأتي من فراغ بل هو يؤكد مدي التخبط الداخلي التي تعاني منه الحكومة البريطانية الحالية و ذلك بين الرغبة في الخروج بإتفاق أفضل و العجز في الوصول للمبتغي و عدم الرغبة في الخروج بدون إتفاق لا يحقق الطموحات الإقتصادية المستقبلية المرجوة. فتلك المماطلة من قبل أعضاء مجلس نواب الشعب البريطاني من خلال رفض الإتفاق الحالي و المطالبة بمزيد إبتزاز الإتحاد الأوروبي بتنازلات إضافية و التي لا يرغب فيها هذا الأخير يجعل من الثقة بين الطرفين هشة و الإتفاق برمته علي حافة
الهاوية. بالتالي يعني "شخص يريد الخروج بإتفاق أفضل و الشخص الآخر لا يرغب بالتنازل عن المزيد من الإمتيازات" مما يجعل من ذلك الإتفاق أجوف و لا يمثل طموحات الطرفين فيما ترغب مستقبلا. أما بالنسبة للمشادة الكلامية بين حفيد تشرتشل عضو البرلمان البريطاني مع رئيس الحكومة هو أيضا يعتبر مجرد زوبعة في فنجان فارغ بحيث مهما إختلفت الآراء فالتنفيذ سيكون واحد و المصير هو الخروج الحتمي و لو كان "بكف حنين فارغ". فحفيد رئيس حكومة بريطانيا السابق تشرتشل لم يستوعب مقولة جده حينما قال يوما "لا يوجد عدو دائم أو صديق دائم – بل توجد مصالح دائمة" و تلك المشادة الكلامية لم تكن في صالح الطرفين. فاليوم ذلك الإتفاق المصاغ بصيغته الحالية يعتبر الأفضل و القابل للتصويت عليه و لتمريره نظرا لأهمية تلك التنازلات من طرف الجانب الأوروبي التي تحفظ تلك المصالح الدائمة قبل الخروج المشرف أو إنحراف المسار التفاوضي و إنجرافه نحو الطلاق تراضي بدون الحصول علي شئ يذكر و الخروج المذل. إن تعنت أعضاء البرلمان البريطاني بالرفض المستمر و المتواصل للتصويت بنعم علي إتفاق الخروج "البريكست" لا يقدم و لا يؤخر من تلك الأحداث المعقدة و المتشعبة بطبعها بين مفوضية الإتحاد الأوروبي و بريطانيا بحيث ممكن أن يحول الأمور مستقبلا نحو سحب الثقة عن حكومة بوريس جونسون نظرا لتمسك حزب العمال و علي رئسهم جريمي كوربن عبر تعطيل الشؤون الخارجية للحكومة البريطانية الحالية و التوجه نحو إنتخابات مبكرة لعلها تحمل في جعبتها بعض الإمتيازات لحزب العمال الذي سيكون هو بدوره طامع في الحكم, لكنه في المقابل سيكون حتميا في تلك الدوامة نفسها و هي تقرير مصير الخروج من الفضاء الأوروبي المشترك و لو كان بالطلاق بالتراضي.
التأثيرات المستقبلية علي الإقتصاد البريطاني
يعتبر الإتحاد الأوروبي ثاني قطب إقتصادي عالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية نظرا لقوة السياسة النقدية و المالية الأوروبية التي تعتمد علي عملة اليورو كعملة دولية قوية في المبادلات التجارية و المعاملات المالية. إذ يعتبر الإقتصاد الأوروبي قويا جدا في شتي المجالات التي تعتبر في مجملها الشريان الحيوي لذلك الفضاء التجاري و المالي الحر. أما في المقابل فالإقتصاد البريطاني يعتبر بدوره جزءا قويا جدا في الإقتصاد العالمي نظرا لأهمية المبادلات التجارية اليومية مع بقية دول العالم أو أيضا نظرا لقوة العملة المحلية في الأسواق المالية العالمية و التقارب في المصالح الدولية مع أقوي قطب إقتصادي عالمي و هي الولايات المتحدة الأمريكية بحيث يدعم ذلك التحالف عبر قنوات الضغوطات العسكرية في الخارج بتقوية البنية التحتية للإقتصاد المحلي. إذ للتعريف بالمصطلحات الإقتصادية العميقة فالضغوطات العسكرية التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية خاصة في منطقة الشرق الأوسط تعتبر جزءا لا يتجزأ من قوة الإقتصاد الأمريكي عالميا بحيث يعتبر تقارب السياسات البريطانية مع الأمريكية الدعامة الأساسية في تماسك ذلك الإقتصاد من أجل مجابهة أي أزمات. أما بالعودة إلي تمرير إتفاق البريكست مجددا بعد إسقاط حكومة تيريزا ماي فهي تعتبر مجرد مناورات سياسية للمطالبة بالمزيد من التنازلات من الطرف الأوروبي تخص بعض الحوافز الجمركية و حركية الأشخاص خاصة في نطاق التوظيف أو في بعض المعاملات المالية. فإجمالا لن يتأثر الإقتصاد البريطاني كثيرا من الخروج المستقبلي من الإتحاد الأوروبي الذي يعتبر في الأفق حتمي بالتصويت البرلماني أو الشعبي نظرا لقوة البنية التحتية الإقتصادية البريطانية من تجارة, مالية و الأهم من كل ذلك هو الإستقلالية التامة للسياسة النقدية عن سياسة الإتحاد الأوروبي في فضائه الموحد الذي يعتمد علي آليات إستقرار الأسعار في الأسواق العالمية و إعتماد نسبة تضخم مالي منخفضة لا تتجاوز 2% و مؤشر مركزي لا يتجاوز 4.25%. بالنتيجة لا يعتبر الإقتصاد البريطاني ملزما بتنفيذ تلك القيود بحيث تعتبر سياساته النقدية متحررة كليا من القيود الأوروبية و لا تمثل له الخروج من الفضاء الجمركي و السياسة المالية تغييرا كبيرا بحيث سيظل متماسكا و صامدا و سيشكل قطب إقتصادي قوي جديد مستقبلا متحالفا ماليا و تجاريا مع أقوي قطب إقتصادي عالمي وهي الولايات المتحدة الأمريكية و موازيا و منافسا جديا للإقتصاد الأوروبي بحيث تكون تلك التأثيرات علي إقتصاده بعد البريكست محدودة جدا.