شكرا كورونا ..؟!!        د. عبد الله الفرا  

قد يكون هذا العنوان مستفزا لكثير من القراء إذ كيف يُشكر عدو على جرائمه .. وكيف يُثنى على القاتل وهو مخضبا بدماء ضحيته؟ بالطبع انا لا احب هذا الفيروس المجرم القاتل والذي قلب حياتنا في جميع انحاء العالم رأسا على عقب وأحال حياتنا الى فوبيا سوداء .. لقد استطاع هذا الشئ غير الحى ,والذي لم يصل في وضاعته ودناءته ( بالتعبير البيولوجي) حتى الى مستوى الخلية الحية الواحدة ولكنه ومع ذلك استطاع وبفعل تسلله الى قفصنا الصدري, واحتلاله للرئتين ,ان يحولهما الى مقر دائم له يسرح ويمرح فيهما ليمنع حويصلاتهما الهوائية من امتلاك الاوكسجين اللازم لبقاء حياتنا,  ومن ثم حُكم علينا بالموت الذليل .. إذ لا غُسل ولا تكفين ولا حتى جنازة لا بل لا مشيعون ,أي لا اهل ولا أصدقاء يستطيعون تشييع جثماننا المسكين!! بل ربما حكم علينا بالحرق وفق إجراءات قاسية  ومن هنا اضفنا الى أبنائنا لقبا جديدا وهو "إبن المحروق" !! وذلك ليس من باب الاستهزاء او الشتيمة بل من باب الحقيقة وتقرير الواقع!!

وهكذا انا اقف أيها السادة في خندقكم خندق الحقد والكراهية المطلقة على هذا المخلوق اللعين. ولكن .. انا لست ممن يشقون الجيوب ويلطمون الخدود  بل انا من النوع الذي يقول  عسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم او جزى الله الشدائد كل خير  . قياسا على ذلك دعوني احدثكم عن الجوانب المضيئة التي انبثقت من ظلام هذا الفيروس القاتل .. الان يقولون ان البيئة أصبحت اكثر نظافة وأقل تلويثا  .. الان أصبح الولدان اكثر تفرغا لاطفالهما ومن ثم أصبحت الاسرة اكثر ترابطا عما قبل كورونا  كذلك الشوارع أصبحت اقل ازدحاما او بمعنى ادق أصبح السير اكثر انسيابية واختفت حوادث الطرق التراجيدية  وأصبحتَ وبكل سهولة تجد مكان الانتظار المناسب لايقاف سيارتك ! .. كذلك اصبح الانسان منا  حتى غير الملتزم دينيا اكثر قربا من ربه فهو تأكد من انه ومهما طغى وتجبر  و وإغتر بنفسه ومن ثم توهم انه اخضع كل شيء في هذا العالم  لامرته ,إلا انه  عبد  ضعيف امام ربه وخالقه . ويجب ان نوضح هنا اننا لا نفسر تغلغل هذا الفيروس على انه  لعنة  من إلله على خلقه  فالله دائما راحم رحيم يقابل الذنوب بالمغفرة ويقبل التوبة حتى قبل وصول الروح للحلق  ومن هنا فنحن نقول وكما قال احد علماء الدين " كرونا لم تأت لتقبض ارواحا لم تحن أجالها  ولكن ليحي ارواحا ميته وقلوبا غافلة ويعظ نفوسا غافلة" 

إذن فان الوجه الاخر لمضار هذا الفيروس هو خير لنا اضيف فاقول بل هناك اكثر خيرا مما سبق قوله من فوائد ..هناك تغيير جذري وللافضل في حياتنا  وبمعنى ادق انتقل أسلوب حياتنا الى عالم  جديد اختلف جذريا عما عهدناه من اساليب وانشطة حياتية وانا اقصد بذلك الانتقال الى ما يطلق عليه عالم الرقمية والذي اصبحنا وبالفعل نمارسه  .. لقد اصبحنا حاليا نقوم بمعظم انشطتنا اليومية من خلال لوحة مفاتيح الكمبيوتر او ازرار التليفون الموبايل  فبواسطة هذه الوسائط اصبحنا نتابع حساباتنا في البنوك  وندع الشيكات فيها وندفع الفواتير ونسدد الديون ..الخ كذلك من خلال هذه الوسائط نتواصل مع الناس ونتحدث معهم صوتا وصورة وبلا نقود تقريبا  وكذلك نشاهد قنوات تلفزيونات البلاد المختلفة لا فرق ان كانت قريبة منا او بعيدة عنا فنحن هنا لا نحمل هم المسافة ولا الأجرة فنحن واثناء جلوسنا على كنبة وثيرة نتواصل مع أصدقاء لنا في  الهند والسند وبلاد تركب الافيال ! ولعل الأهم من ذلك كله هو ما اصبحنا نطبقه حاليا وبفعل الكورونا  ألا وهو التعليم الرقمى وكذلك الموظف الرقمى  .. لقد اصبح الان طلابنا وبفضل الكورونا ومن المرحلة ما قبل الابتدائية والى ما بعد الجامعية يتلقون دروسهم عن طريق الانترنت وهم  داخل منازلهم اذن اصبح التعليم الرقمي يتكون من طالب رقمي واستاذ رقمى ووسيلة  او قناة اتصال رقمية واداة إستقبال رقمية أيضا   فالطالب وهو في منزله  يتلقى الرسالة او المعلومة من استاذه  والذي هو وبدوره أي الأستاذ يرسل له هذه المعلومات وهو جالس في منزله ومن ثم يحدث تفاعل حي بينهما من خلال الأسلوب السابق لا بل  يستطيع المدرس ان يتواصل ويتابع  اكثر من طالب كما لو انه بالفعل داخل الفصل الدراسى التقليدي  وكذلك الطلاب يستطيعون مشاهدة بعضهم البعض والتواصل أيضا فيما بينهم  وهكذا فان هذا الفصل الرقمي اصبح يشبه تماما الفصل الحقيقي في المدرسة التقليدية  اما نتائج هذه الرقمية فهى مذهلة حقا  فلقد اصبح لا حاجة للمبنى المدرسي ولا لتأثيث غرف هذا المبنى ومن ثم اصبح الوفر في المزانية الماليه مذهلا  لقد وفرنا ثمن المبنى وثمن الأثاث وثمن استهلاك الماء والكهرباء ولا حاجة لمرافق المدرسة من حمامات وملاعب ومسرح ولا حاجة لامين مخزن ولا عمال نظافة ولا حتى مكاتب لناظر المدرسة وغرفة المدرسين ولا حتى ساحة انتظار لسيارات المدرسين او الزوار  اما بالنسبة للطالب فلقد وفرنا عليه مشقة الاستيقاظ الباكر للاستعداد للذهاب للمدرسة ولا لركوب باص المدرسة او سيارة والده ومن ثم لم تعد الطرقات مزدحمة وقت المدارس ومعنى ذلك تقل الحوادث وتلقائيا ستقل نفقات التأمين ويقل أيضا استهلاك السيارة   اما بالنسبة للمدرس أيضا لا حاجة لتحضير نفسة من الصباح الباكر للذهاب للمدرسة وحضور طابور الصباح  ولا للقلق من زحمة الطريق ولا لضرورة الانتظار طول اليوم في انتظار موعد بعض الحصص التي سيدرسها

خلال ذلك اليوم الدراسى  بل سيصبح مستعدا وهو في منزله لاعطاء الدرس المطلوب وبعد ذلك ينصرف لادارة أمور منزله والاعتناء بامور اطفاله اما المدرسّة فسوف يكون لديها الوقت لرعاية اطفالها وارضاع المولود الجديد فلا حاجة والوضع كذلك لاخذ هؤلاء الأطفال الى دور الحضانه وهم لم يتعدوا الثلاثة سنين  مما يوفر على الأباء مصاريف هذه الدور المكلفة ويقى الأطفال من اكتساب العدوى من امراض  اقرانهم الأطفال المصابين .وهكذا هي مسلسة تقود الخطوات السابقة الى اللاحقة وكلما سرنا قدما في هذه المسلسة كلما زاد الوفر ومن ثم لن تصبح الدولة تحتاج الى الميزانيات الضخمة من اجل التعليم  بل ستنفق وتنفق بسخاء على تحسين نوعية التعليم وزيادة مردوده .

ما سبق كان مجرد مثال لعالم الرقمية وبالطبع يمكن تطبيق هذا المثال على العمل في الشركات  فالشركات لم تعد والحال كذلك إلى موظفين المطلوب منهم الحضور الى مقر الشركة والبقاء على مقاعد مكاتبهم طول وقت الدوام  بصرف النظر عن كمية انتاجهم فالمهم هنا مدة الدوام أي "الإدارة بالتصاق الارداف " او حتى " الإدارة بالاكتاف "حينما  يكون الموظف على صراع دائم لتلبية طلبات طالب الخدمة  وهكذا اصبح تقويم الموظف على أساس "الإدارة بالاهداف" أي على أساس  مدى ما حققه هذا الموظف من الأهداف  والمهام المرسومة له وفق التوصيف الوظيفى الخاص به . وهنا أيضا سيتم توفير المباني والاثاث ونفقات استهلاك الماء والكهرباء والتدفئة والتكييف   والكثير من البنود الأخرى لدرجة انه يصبح بالإمكان إيجاد مكان للايجار في أي منطقة من المدينة امرا سهلا وفي المستطاع  وقد أقول ومن هذا المنطلق سيصبح إقامة العواصم الإدارية  كما تعلن حاليا بعض الدول ترفا لا مبرر له  في عالم الرقمية القادم . هكذا يمكن القياس على المثالين السابقين لتطبيق الرقمية في جميع مناحى الحياة!!

باختصار شديد اوكد ما قيل العالم ما بعد كورونا سوف يختلف كثيرا عما  كان قبلها  هو وبالفعل قول حكيم جدا وفي محله .

نشرت هذه المقالة في جريدة دنيا الوطن يوم 21 ابريل 2020  انظر الرابط https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2020/04/21/520052.html

 

شارك مع أصدقائك
  • gplus
  • pinterest

أخر الأخبار

لا يوجد أخبار

أحدث التعليقات

    لا يوجد تعليقات

أترك تعليقاً