د. نزيه خطاطبه
تصاعدت حدة المعارك مؤخرا في اقليم ناجورني كاراباخ المتنازع عليه بين القوات الاذربيجانية والارمنية والتي تعتبر الاعنف منذ توقف الحرب التي اندلعت بين البلدين في اعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي واعلان استقلال جمهورياته في نهاية العام 1991 ومنها اعلان الاقليم ذي الاغلبية الارمنية والخاضع لادارة اذربيجان ويتوسط اراضيها استقلاله التي لم يعترف بها احد . اندلاع واشتداد حدة المعارك الاخيرة ياتي في ظل ظروف محلية ودولية ويحظى على اصطفاف وتاييد لكل من الدولتين انطلاقا من عوامل عدة منها مصالح اقتصادية وتعزيز النفوذ وبيع الاسلحة وقومية ودينية وسياسية باثارة حالة من التوتر وعدم الاستقرار بالقرب من حدود روسيا التي تقيم علاقات وثيقة مع اذربيجان وتحالف مع ارمينيا الامر الذي يحرج موسكو ويجعلها في صدام جديد مع تركيا سيضاف إلى المواجهة السياسية والعسكرية المكلفة لروسيا مع تركيا في سوريا وليبيا.
فاذربيجان تحظى على دعم وتاييد مطلق من قبل تركيا التي تربطهما علاقات عرقية وتاريخية قوية كونها دولة اسلامية (علمانية )غالبية شعبها من الشيعة ذوي الاصول التركمانية وهي غنية بالنفط والغاز الذي يصدر عبر انابيب الى تركيا , كما تحظى على علاقات وثيقة مع الاحتلال الاسرائيلي وتصدر له النفط عبر تركيا مقابل تزويدها بالاسلحة الحديثة والدعم الامني والاستخباري وفتحت اراضيها لاقامة العديد من المواقع الامنية الاسرائيلية للتجسس على المنطقة وخاصة ايران . فيما تحظى ارمينيا على دعم وتاييد روسيا وايران وغالبية الدول الاوروبية وخاصة اليونان العدو اللدود لتركيا .
أصبح واضحاً أن الأطراف المتقاتلة الأرمينية والأذربيجانية لم تعد ترغب في مواصلة مفاوضات سلام عبثية ، فالرئيس الاذري عالييف اعلن ان التفاوض بشأن قره باغ لم يكن مجديا وأذربيجان لن توقف عملياتها ما لم تستعد وحدة أراضيها مستغلا الدعم والضغط الشعبي المطالب باعلان الحرب لتحرير الاراضي الاذرية المحتلة , والدعم التركي المباشر لأذربيجان ما مكَّنها من التحدّي واحراج موسكو التي لا ترغب في رؤية توتر جديد على حدودها يضاف الى التوتر الموجود مع دول الشمال وبولندا مرورا باوكرانيا وجورجيا واخيرا بلاروس , والدخول في حرب، لا يسمح وضعها الاقتصادي بذلك، وفي نفس الوقت سيكون من العسير عليها التمسك بالحياد ، فالدعم التركي المباشر لأذربيجان يدفع روسيا إلى البقاء في الوسط وممارسة الضغط الدبلوماسي او الانحياز الى ارمينيا الجانب الآخر من الصراع، ويؤدي ذلك إلى عداء مع أذربيجان.
خطاب الرئيس التركي إردوغان المتشدّد في دعم اذربيجان والمعادي لارمينيا مرتبط بموقف تركيا في ليبيا وسوريا وشرق البحر المتوسط، وتراجعه في مواجهة التحركات الروسية المضادة والتهديدات بفرض عقوبات من الاتحاد الأوروبي وبالتالي فان إردوغان يعلق الآمال على تحقيق نجاح يرتد عليه شخصيا بزيادة شعبيته والظهور بمظهر المدافع عن القومية التركمانية وحمايتها, وعلى بلاده بانتعاش اقتصادي ببيع المزيد من المعدات العسكرية لأذربيجان، والفوز بشروط أفضل لواردات الغاز والنفط من اذربيجان واوزبكستان وتركمانيا . اضافة الى اشغال روسيا واثارة التوتر على حدودها وفي حديقتها الخلفية.
اصل النزاع
يعتبر اقليم «ناغورنو كاراباخ» أو مرتفعات الحديقة السوداء بالاذرية بينما يطلق عليه الارمن اسم «أرتساخ «، منطقة متنازع عليها بين أرمينيا وأذربيجان حيث تؤكد أرمينيا أنه جزء من أراضيها لكون أكثرية سكّانه من الأرمن فيما تتمسك آذربيجان بحقها استعادة هذا الإقليم باعتباره سلخ من أراضيها ويتوسطها , اضافة الى تحرير الاراضي الاذرية المحتلة الاخرى. وتعود جذور الصراع إلى أكثر من قرن مضى، حين كانت المنطقة مسرحاً للتنافس على النفوذ بين المسيحيين الأرمن والمسلمين الترك والفرس.
وقد سكن المنطقة لقرون مسيحيون أرمن وأذريون ترك، وأصبحت جزءاً من الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر. وعاش سكانها في سلام نسبي، تخللها أعمال عنف وحشية ارتكبتها عناصر من الجانبين في أوائل القرن العشرين تحت تاثير النزاعات في المنطقة المجاورة وخاصة في تركيا .
فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتشكيل الاتحاد السوفيتي جرى الاعلان عن حكم ذاتي في ناغورنو كاراباخ الذي تسكنه اغلبية ارمنية داخل حدود جمهورية أذربيجان السوفيتية السابقة .
ومع تراجع القبضة السوفيتية في في العام 1988، تطورت الخلافات بين الأرمن والأذريين إلى أعمال عنف وتطهير عرقي بعد تصويت برلمان الاقليم لصالح اعلان الاستقلال و الانضمام لأرمينيا. ترافق مع بدء اعمال وهجمات مسلحة وتطهير عرقي للسكان الاذربيجانيين في الاقليم تطورت لاحقا الى تطهير عرقي للسكان في البلدين اذربيجان وارمينا اسفرت عن مقتل الاف الاشخاص في مذابح بشعة ، ونزوح نحو مليون شخص من الجانبين.
وانتزعت الأغلبية الأرمنية سيطرتها على الإقليم، اضافة الى احتلال مناطق واسعة من اراضي اذربيجان اضعاف مساحة الاقليم تحيط به وعلى حدود ايران للربط بين كاراباخ وأرمينيا. وقد انتهت الحرب بتوقيع اتفاق وقف اطلاق النار وهدنة بوساطة روسية عام 1994، غير أن المفاوضات التي تقودها مجموعة مينسك وتتولى روسيا وفرنسا والولايات المتحدة رئاستها (ضمن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا) فشلت في أن تقود للتوصل إلى معاهدة سلام دائم حتى اللحظة حيث يشعر الاذريون بالمرارة لخسارتهم أرضاً يرونها حقاً لهم، والأرمن الذين لا يبدون أي استعداد للتخلي عنها وعن حقهم في تقرير مصيرهم والاستقلال .
وفي كل الأحوال، وعلى الرغم من الاعراف القانونية التي تعطي الحق لأرمن كاراباخ بتقرير مصيرهم وفي نفس الوقت يعطي الحق لجمهورية اذربيجان الحفاظ على وحدة اراضيها وسيادتها ، فإن الموضوع لا يمكن فصله عن صراع الجيوبوليتيك في القوقاز، وتنافس المصالح التركية, الروسية و الأميركية والاوروبية ، واهمية المنطقة في حرب الأنابيب، ومحاولة كسر الاحتكار الروسي لإمدادات الغاز إلى أوروبا .