الفهم الجيد للأحداث قد يشوشه الاستخدام البلاغي للأخلاق. وفي المعركة الأيديولوجية يتحول الكذب إلى وسيلة مشروعة، وتُستخدم الحجج الأخلاقية لإضفاء الشرعية على القرارات التعسفية، واعطائها شكلا مقبولا. والتلاعب بالرأي العام متواصل على مستوى عالمي، على قاعدة أنه لا يمكن خلق تعاطف مع قضية إذا لم يكن لها أساس. وهنا يتم تصعيد عمليات التضليل الإعلامي من أجل شرعنة ما لا يمكن شرعنته.

ومشكلة التطبيق الانتقائي للمبدأ العالمي، تجري بنسق مفضوح، فمن المنطقي أنه من الأفضل تحقيق السلام، ولكن المسألة تعتمد على نوعية السلام، في النهاية. وما وصلت إليه القضية الفلسطينية، مع صفقة القرن يقف دليلا على إرادة العجز الدولية في إعطاء الحق لأصحابه.
وتذكرنا اتفاقيات التطبيع، وهرولة بعض الدول العربية باتجاه إسرائيل، بتلك الصورة التي رسمها المؤرخ الروماني تاكيتوس للنزاع، الذي احتدم بين الأخوين آرمينيوس وفلافوس، اللذين ينتميان إلى إحدى قبائل الشيروسك. وكان الجدل المحتدم بين الأخوين على ضفاف نهر الفيزر، في شمال غرب ألمانيا، قد بدأ بسؤال وجهَهُ آرمينيوس، الذي أشعل فتيل ثورة ضد الجيش الروماني، إلى أخيه الذي دافع بكل قوة عن الرومان، وفقد إحدى عينيه نتيجة ذلك. وكان فحوى السؤال عن المقابل الذي تحصّل عليه من روما، جزاء فقدانه نور عينيه دفاعا عن المستعمِر. وأشار فلافوس هنا إلى الزيادة التي طرأت على راتبه، وإلى القلادة الثمينة وإكليل النصر، وما سوى ذلك من نياشين عسكرية زينَ بها الرومان صدره. بيد أن آرمينيوس ضحك ساخرا من الثمن البائس الذي تحصل أخوه عليه، لقاء العبودية التي صارت تُطوق عنقه. وازدادت حدة المحاجات، حينما صار النقاش يدور حول احتمال كون أن على المرء أن يخلص لأصوله القومية، وحب الوطن، أو أن يمالئ سلطان الامبراطورية.

ينسى نتنياهو وترامب، أن مشعل المقاومة مازال متوهجا، والتمسك بالحق الفلسطيني والعربي لم يتزحزح

إيران «عدو أكبر من إسرائيل» في تقدير بعض الدول العربية. والتقارب مع تل أبيب يُبنى على تعلة من هذا النوع، ضمن ديناميكيات السياسة المتغيرة في المنطقة. وهكذا تخلت الجامعة العربية بدفع من الإدارة الأمريكية عن مواقفها المبدئية إزاء القضية الفلسطينية. وبتغير أولويات الدول العربية، وإفلاس جامعتهم وتركهم فلسطين لوحدها لا نصير لها في المنابر والهيئات الأممية، لم يعد ضمن الأجندة الدولية مساحة نقاش، ولا مداولات خاصة بفلسطين، وحقها في تقرير مصيرها مثل جميع شعوب الأرض، التي عانت الاستعمار الفاشي الكولونيالي. وهي مسارات تخاذل وفكر سياسي مهزوم، شجّع سياسة الاستيطان الاسرائيلية بشكل متسارع، مع السعي إلى تحويل التطبيع إلى تحالف إقليمي ضد جبهة المقاومة في شكل محور خليجي إسرائيلي. وفي ظل رئاسة دونالد ترامب، انكشف الوجه الخفي للمشروع الأمريكي، وتحول إلى إنكار صريح لحل الدولتين، وتنكر للشرعية الدولية، تجاوزَ الانحياز التقليدي إلى جانب تل أبيب نحو اصطفاف تام مع مشروع أقصى اليمين الإسرائيلي. والضجة الدعائية التي أحاطت بموكب التوقيع على اتفاقيات التطبيع، تفسر رغبة الرئيس الأمريكي في توظيف هذا الملف انتخابيا. وما دام يكابد من أجل ولاية رئاسية جديدة، تتحول إسرائيل بقدرة قادر إلى شريك إقليمي يصنع السلام، ويتم تجاهل سجلها التاريخي الحافل بالسياسات العدوانية والمجازر والقتل والتهجير. ويستغل ترامب الوضع العربي البائس على الصعيد الرسمي، وتخلي الدول العربية عن المشروع القومي الجامع، الذي كان يمنحها موقعا دبلوماسيا على الصعيد الدولي في الدفاع عن الحقوق العربية والحقوق الفلسطينية المهدورة. وفي تفاهم وتنسيق جيد مع الحكام الاستبداديين، الذين يخشون قيام تظاهرة احتجاجية، يدفع الرئيس الأمريكي باتفاقيات التطبيع إلى العلن، لكسب نقاط سياسية على الصعيد الداخلي. وهو الذي عبر صراحة عن حبه للديكتاتوريين والانقلابيين. وبالكيفية نفسها يستفيد نتنياهو الملاحق بتهم فساد، وفي أضعف لحظاته السياسية، ويأمل في إخماد الاحتجاجات المتواصلة التي تطالب بتنحيه عن السلطة ومحاكمته. ولم يسبق أن كان الموقف العربي بمثل هذا القدر من العجز والشلل التام، والتغافل الكلي عن التحولات الاقليمية والدولية الكبرى. وكأنهم مازالوا يعيشون في عالم أحادي القطب، يتمسحون بأهداب الأمريكي، ويغيبون تماما عن الصراع الدائر في المتوسط، حول الثروات الغازية والنفطية. ويسمحون بسيطرة المطبعين على الجامعة العربية، وتحكمهم في القضايا المصيرية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
مسار تراكمي من الإجراءات الاستيطانية التوسعية التي لا تتوقف.


والحديث عن تأجيل الضم بوصفه منة تُقدم للشعب الفلسطيني ومجاملة للمطبعين، ليس سوى هراء وصفاقة. فقرار الضم يُجمد كإجراء قانوني، ليُدرج في سياق تنفيذ مبادرة ترامب المسماة صفقة القرن، التي روج لها كحل نهائي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. والاتفاق الصهيوإماراتي، الذي فتح الباب تباعا للتطبيع المجاني، تجاوز التطبيع بما هو مجرد علاقات عادية بين طرفين، إلى وصفه بمشروع التحالف الاستراتيجي. بما يشير إلى أجندة جيوسياسية تُرتب لمنطقة الشرق الأوسط، إثر تبدل المواقع وتغير الأولويات واختلاف الأدوار. ولكنها تزيد في تأكيد المعادلة المحتومة، أنه لا سلام في المنطقة بدون حل عادل للقضية الفلسطينية. ومثل هذه التطورات، لا تخدم السلام، وإنما تفتح جبهات جديدة قابلة للاشتعال في أي وقت. وتضع الجميع على رمال متحركة. ويكفي أن تعتبر إيران التطبيع تهديدا جيوسياسيا جديدا، جلب إسرائيل إلى حدودها وإلى مياه الخليج. وستتعامل مع اتفاقيات الهرولة باعتبارها عدوانا يضع قواتها العسكرية أمام قواعد جديدة، تشمل المطبعين في حال حدوث أي توتر. وهو ما يزعزع الأمن ويفاقم مشاكل الشرق الأوسط، بعد أن أصبح العرب في أحلاف مع إسرائيل وانساقوا وراء رغبات الرئيس الأمريكي.


وينسى بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب، ومن تحلق حولهم من مستشارين، أن مشعل المقاومة مازال متوهجا، والتمسك بالحق الفلسطيني والعربي لم يتزحزح. وفلسطين هي البوصلة الأولى في وعي جل الشعوب العربية والاسلامية التي تعاني غطرسة الحكام واستبدادهم. ورغم الإحساس بالخيبة في زمن الخيانة، فإن الشعب الفلسطيني يصر على مواصلة نضاله، والتمسك بحقه في استرجاع أرضه وبناء دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف. وأحرار الأمة يحملون لواء الحق ويتمسكون بالقضية المقدسة والعادلة، ولن يضعفوا أو يتخلوا، ولن تسقط بندقية الثائر أو يُطمس تاريخ غصن الزيتون.

كاتب تونسي   القدس العربي

<<لطفي العبيدي>>

شارك مع أصدقائك
  • gplus
  • pinterest

أخر الأخبار

لا يوجد أخبار

أحدث التعليقات

    لا يوجد تعليقات

أترك تعليقاً