من وحي ذكريات وجبة الإفطار في رمضان
بالأمس وانا جالس على مائدة الإفطار انتظر اذان الإفطار وقد جلست معي زوجتي وكذلك كان ابنى ,كنا نجلس على مائدة الإفطار الرئيسية وقد خلت كراسيها إلا من ثلاثتنا في شعور يملأه الوحدة والانعزالية وأكاد أن أقول الاكتئاب , وذلك بناء على قوانين الحكومة الصارمة التي امرت الناس بالانعزال في المنازل وبعدم الزيارات العائلية وحظر الدعوات على الطعام او حتى مجرد التجمعات , وذلك نتيجة لتزايد اعداد المصابين بجائحة كورونا .
كان امامنا العديد من الاطباق الشهية الطازجة والمشروبات التقليدية من قمر الدين ومشروب جوز الهند وغيرهما . هكذا اذن جلس ثلاثتنا على المائدة ندعو الله ونحوقل ألا يأتي العام القادم إلا وتكون مأساة الكورونا قد انتهت وان لا يعيدها الله على البشرية مرة ثانية على الاطلاق . بعد دقائق ,استمعنا الى رفع أذان المغرب من خلال تليفوننا الخلوي وكان صوت التلفاز يعبق جو المكان بايات من الذكر الحكيم للمرحوم القارئ الشيخ الطبلاوي .
بدأنا في تناول الطعام المتعدد الأصناف ولكن بشهية ليست عالية وبصمت وسكون شبه تام و ليس بصخب مأدب رمضان في السنين السابقة حيث يتجمع الاهل او الأصدقاء ومن ثم تختلط التسبيحات مع رنة الضحكات على خلفية تلامس الملاعق مع الاطباق ,و ورفع الشوك محملة بالسلطات او بقطع من المشويات !! عندها عادت بي الذاكرة الى سنين طويلة سابقة حينما كان لشهر رمضان وكما يقولون” طنة ورنة” وكان لهذا الشهر الفضيل طقوسا خاصة ننتظرها من عام لعام .
رجعت بي الذاكرة الى طفولتي حينما كنت طفلا في مدينتي الام خانيونس والتي هي المدينة الثانية في قطاع غزة .. اتذكرحينما كنت طفلا اتخطى السنة العاشرة من عمري حينما كان والدي رحمه الله يصر على اخذي معه الى اقرب احد دواوين ( جمع ديوان) عائلتى أل الفرا الى منزلنا حيث يتجمع فيه بعضا من افراد عائلتى الممتدة. كان الديوان في ذلك الوقت بمثابة نادي ثقافي او قهوة محترمة حيث يجتمع فيه الرجال كل ليلة يتسامرون ويتبادلون الاحاديث والقصص التاريخية ويتعرفون على أخبار بعضهم البعض كذلك كانت للديوان أهمية خاصة حيث تجرى فيه عمليات فض الخلافات والفصل في النزاعات ..الخ
المهم كان ابي وقبل المغرب بحوالي الساعة يطلب من والدتي رحمها الله تحضير" االصُدر" وهو صينية نحاسية متوسطة الاتساع وغير خفيفة الوزن( لم تكن صواني الألومنيوم معروفة آنذاك) .وهكذا تقوم والدتي بوضع طعام الإفطار لي ولوالدي في هذا الصُدر حيث تضع الخبز الطازج والذي أُحضر من المخبز قبل لحظات و للعلم فقد كانت والدتي تقوم يوميا بتحضير هذا الخبز من عجن وتقطيع . وبالطبع حينئذ يكون الخبز شهيا طازجا . اذ لم يكن في ذلك الوقت خبزا يباع في الأسواق وان وجد فان الناس لا تقبل عليه حيث انه يكون باردا غير طازج . (مجرد بارد وليس بايت أي مخبوز قبل أيام مثل الخبز في أيامنا الحالية البائسة الان !!)
أقول تضع والدتي بعضا من الارغفة في الصينية ثم عددا من الصحون الممتلئة بأصناف الطعام الطازج المطبوخ في نفس اليوم فهناك طبيخ البامية والتي هي بامية بلدية أي خشنة الملمس وذات رائحة قوية ومطبوخة بعصير الطماطم الطازجة وليس مثل بامية هذه الأيام الملساء المثلجة عديمة الطعم والرائحة والمطبوخة بصلصة الطماطم المعلبة
وهناك صحن الارز الكبير ( جاط) وقد وضع فيه الأرز المصري الشهي الطعم تفوح منه رائحة السمن البلدي وقد زين بالصنوبر او اللوز المقشور وتربعت على قمته عدة قطع من لحم الضأن المحمرة, وفي صحن ثالث وضعت قراقيش خبز وهي عبارة عن قطع صغيرة من الخبز المحمص الهش ( مثل شبس البطاطس) وفي جاط اخر وضع بعضا من محشى ورق العنب الطازج حيث كان رمضان أيام تلك السنة يصادف في الصيف أي وقت تواجد هذه الأوراق .. بالإضافة الى الاطباق السابقة الذكر فقد كانت امي تضع المخللات وفلفل غزة الحار او متوسط اللسعة اما السلطات او الشوربات فكانت وفي اغلب الأحيان لا تضيفها لهذه القائمة إلا عند الطلب!!
بعد ذلك يقوم والدي وقبل الاذان بربع ساعة بحمل هذه الصينية المغطاة بفوطة بيضاء كبيرة ( منشفة) اذ ان ورق القصدير لم يكن قد عرف بعد. أما بالنسبة لي فقد كنت اذهب مع والدي لأحمل كيلة معدنية وكوزا زجاجيا ( دورق) به عصير الخروب او التمر هندي او ماء صافيا وضع فيه ورق الليمون وقطعا من الثلج لتبريد العصير او الماء بالنظر الى ان الثلاجات الكهربائية لم تكن قد وصلت بعد الى مدينتا وذلك لعدم وصول "الكهرب " أي التيار الكهربائى والذي وصلها في العام 1957.
واما بالنسبة للعصائر او المشروبات فلم يكن يباع منها إلا قمر الدين او شراب الورد اما عصائر الخروب او التمر هندي او العرقسوس فقد كان والدي يقوم بتحضيرها بنفسه واثناء عملية التحضير يقوم باستخدام العديد من الاواني المنزلية وكان يقوم بعمله وكأنه صيدلي يقوم في معمله بتحضير اكسير الحياة !! فقد كان بالغ الحسم في كل خلطة او إضافة يضعها وكانت امي تقوم بدور التقني المساعد أي مساعد صيدلي مما يجعلها تتبرم كثيرا وتتهم الوالد دائما بأنه "مكروع"وبأنه" مكركع الدنيا" أي مشدود نفسيا وغير منظم ويزاد ضيقها وتبرمها حينما لا يجد والدى قماشا رقيقا لتصفية العصير فيطلب من الوالدة احضار احدى شاشاتها البيضاء (والتي تستخدمها اثناء أدائها الصلاة) ليستخدمها في تصفية العصير , مما يؤدي الى ثورة امي العارمة , ولكنه أي ابي كان يعرف كيف يمتص غضبها اذ يقوم بملاطفتها وبوعد منه بانه سيشتري لها شاشة جديدة "طخ "او جديدة" لانج "أي غير مستعملة على الاطلاق بدلا من شاشتها القديمة !!
حينما نصل الديوان نجد ان الكثيرين قد سبقونا واحضروا صوانيهم وهي عامرة أيضا بما لذ وطاب فهناك صحون الكفتة والتبولة ومحاشى الكوسا والباذنجان وطبيخ الفاصوليا الخضراء وأيضا الفقاعية هذا غير المتبلات من متبل الباذنجان ( بابا غنوج) ومتبل الجزر وهناك من يحضر ديكا محشوا بالأرز وقد تربع فوق صينية بها فته خبز الصاج وللعلم فالديك هو ذكر الدجاج حيث انه اطيب طعما من لحم الدجاج رغم ان لحم الدجاج البلدي في ذلك الزمان كان الذ طعما من طعم دجاجنا الحالي المتربي في المزارع او الاقفاص الحالية وذلك بسبب ان تلك الدواجن لم تكن تتغذى على العلف الجاهز مثل الان ولم تكن طيلة وقتها محبوسة في اقفاصها بل كانت تربى في كل بيت حرة طليقة ومن ثم فهي تسرح وتمرح لتلتقط غذائها مما تجده من حبوب الأرض .وهكذا تتجمع ما يقارب العشرين صينية على طاولات مستديرة قصيرة الارجل تسمى" طبالي " جمع " طبلية " واعتقد انها محرفة من كلمة Table الإنجليزية او العكس صحيح !
الان توضع هذه الطبليات او الطبالى على حصيرة او سجادة الديوان ويتحلق الناس حولها وهم جلوس القرفصاء أي بدون كراسي ويأخذون في التسبيح في انتظار صوت اقرب مؤذن حيث لم يكن هناك موبيلات بها مواعيد الصلاة لكل مدينة صحيح كانت هناك إذاعة ولكنها لا تبث الاذان إلا للمدن الكبرى كعواصم الدول مثلا. ولذلك فان الناس التي هي بعيدة عن المسجد يسألون بعضهم بعضا عن مواعيد الإفطار يوما بيوم كذلك لم يكن هناك مدفعا يطلق طلقته ليعلن انتهاء الصيام لذلك اليوم .
ما ان يبدا الإفطار حتى يقوم الناس بالتسمية بذكر اسم الله الرحمن الرحيم ولا أتذكر انهم كانوا يتناولون التمر على الإفطار بل كانوا مباشرة يتناولون اللحوم مباشرة من دواجن او لحوم حمراء وبأيديهم أي بدون شوكة ولا سكين بل يقطعون جسد الديوك المحشية على طريقة الفنان محمود المليجى في الأفلام المصرية !!
اثناء عملية التهام اللحوم ومسابقة ايصالها الى الافواه يكثر ان تسمع بعض التعليقات المرحة والقفشات مثل ان يقول احدهم وهو يتناول الديك المتربع على كومة من الارز في صينية او جاط احدهم " عرف الطعام اهله فتقدما " فيرد عليه اخر يجلس امامه وبتهكم واضح " ذلك حدث نتيجة نبشك في الأساس فقد تهدما"!! او يقول اخر اراك تأكل لحم هذا الخروف بغيظ وسرعة وكأن اباه قد نطحك فيرد عليه اخر ومالك تدافع عنه وكأن امه( أي الماعز) قد ارضعتك!! وحينما يزداد الضغط على التهام الطعام تجد من يرفع عقيرته قائلا وبضحكة عالية " يدان مغلولتان في النار يد اكلت إحتشام ويد اكلت إغتنام" او "لا تكثروا الطعام فالمعدة بيت الداء" !!
وبالمناسبة أيضا لم تكن هناك عادة الاطباق الفارغة لكي يأخذ كل شخص طبقا مثل هذه الأيام ليضع فيه ما يريد من أصناف الطعام بل كان الكل يأكل من نفس الصحن أي ان كل فرد يقوم بغمر او تغميس لقمته في نفس الصحن ليحّملها بالطبيخ ومن ثم يبتلعها وقد يستخدم ملعقة معدنية للمساعدة اذ ان ملاعق البلاستيك لم تكن قد عرفت بعد ,كذلك لم هناك استخدام للشوكة والسكين , اذ كان ينظر اليهما على انهما بدعة أوروبية وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار!!
ويظل الرجال يأكلون الطعام وسط هذه المتعة الجسدية والحسية والنفسية الى ان تمتلأ بطونهم ويبدأوا في التثاؤب او الخمول !! ومن ثم يقومون لأداء صلاة المغرب جماعة . بعد أداء الصلاة والتسبيح يذهب البعض تاركا الديوان اخذا معه صينتيه وقد أصبحت فارغة , بينما يبقى الاخرون منتظرون لصلاة العشاء .
هكذا كانت طقوس رمضان فما احلاها من طقوس وأين نحن منها الان ؟